السبت، 17 ديسمبر 2016

الكذبة البيضا والورقة أم خمسة



إنها الكذبة التي رسمت مستقبل شابين،والمستقبل الذي بني على كذبة ليس له رجلين كما كانت تقول لي جدتي أم أبويا.
تلك الحكمة التي أؤمن بها دوماً مثلها مثل الحكمة الأخرى التي تقول "بيدي لا بيد عمرو" وأنا وعمرو هذا لنا قصة كان بطلها كذبة من أم رجلين ولابد أن أعترف لكم بها،والإقرار بالحق فضيلة عسانا أن نتوب ولكن مع توبتنا لابد ألا نحطم المستقبل الذي بنيناه وإلا فسأشعل النار في عمرو هذا وبعدها أسلم نفسي لأقرب قسم شرطة.
المقدمة السابقة أكتبها ويدي ترتعش بسبب عمرو هذا الذي قادني للرزيلة من أوسع أبوابها وإليكم القصة كاملة بلا حذف ولا بتر وربنا ما يقطعلنا عادة في فضح بلاوينا التي خفاها الزمن.
يحكى أن عمرو هذا قام بالهرش في فروة شعره وافتكس افتكاسة لم يسبقه لها أحد من العالمين،تلك الإفتكاسة جاءت بالصدفة حين كان يحك جلد شعره بسبب جرب أصابه فجأة بلا سابق إنذار وجاءته الفكرة وكانت هى الملهمة التي أنقذت حياته وحياتي من الضياع والتشرد على الأرصفة في ذلك الوقت.
لم أفهم نظرة عمرو لي وقد كان صديق العمر ورغم معرفتي الطويلة به لم أستطيع أن أفهم ما وراء تلك البحلقة الكرومبية لوجهي ويبدو أنه كان يفكر بعمق وهو ينظر اتجاهي وطبخته التي يعدها برأسه لم تنضج بعد ومازالت في طور الرسم،انتظرت حتى أنزل أظافره من فروة شعره وتوقف عن الحك وهممت أن أسأله عما يفكر به فسبقني بجملة سريعة مقتضبة أكدت أن الطبخة جاهزة للإلتهام وقال "تحب تتعين في الشركة النهاردة؟" كدت مع نهاية جملته أن أجري وأبحث بسرعة عن شومة وأنهال بها على رأسه التافهه التي أكلها الجرب وصار بسببها لا يفرق بين الهبل والواقع وقلت له :"نتعين أيه يا حمار إذا كان الناس اللي بقالها 10 سنين وقربوا يطلعوا معاش من الدنيا لسه متعينوش قوم تيجي إنت يا فسل وتهرش في راسك وتقول بكل تناكه تحب تتعين في الشركة النهاردة؟..لا يا سيدي خليها بكره النهاردة أنا مش فاضي عندي غسيل" ومع كلمة غسيل أدرت له ظهري ومشيت خطوتين أو ثلاثة فناداني برخامته المعهودة وقال في برود : "إنت حر بس متجيش بعد كده تقول صاحبي باعني".
هذا الصديق الرخم الذي بلاني به الله في تلك الدنيا أسال لعابي بأخر جملة نطقها لسانه وبدأ عقلي يطنطن مثل الذبابة التي تدور حول صينية بقلاوة طازة فتوقفت واستدرت وقلت له محاولاً زعزعته عن موقفه : "إنت متأكد ولا ضاربلك جوانين زفت من اللي بتشربه كل يوم ع الصبح؟" ضحك وقال لي "تعالى وجرب مش هتخسر حاجه" فقلت له وأنا ألف ذراعي الأيسر خلف رقبته في لفتة من الصداقة الحميمية "وماله ورينا يامعلم" فأسرع ومد كف يده الأيمن في الهواء وقال "إيدك على خمسة جنيه" فأبعدت يدي من حول رقبته بسرعة وأنا أقول " يا حلو بانت لبتك..قول بقى انك عايز تثبتني في خمسه جنيه اشتغالة وتدور في الشغل تقول إنك ثبتني في ورقة بخمسة".
بعد ربع ساعة وجدت نفسي واقفاً بجواره أمام كابينة ميناتل بالشارع وبواسطة كارت الإتصال الممغنط أبو خمسة جنيه الذي دفعت ثمنه كاملاً كان صديقي عمرو يتصل بشخص ما ويقول له :
-          ألووو.حضرتك إحنا من طرف ... (وذكر اسم مسئول كبير في مجال عملنا وقد كان استاذاً لنا في الجامعة أيضاً)... وعايزين نيجي نقابل المدير المسئول في الشركة.
-         اتفضلوا تعالوا هو موجود دلوقتي.
وأغلق الهاتف وأنا متسمر في الأرض وكأنما أصابتني صاعقة من السماء والدنيا تدور وتلف بي ولا أدري ماذا أقول لكني قاومت الخوف والكهرباء التي ضربت رأسي حتى أصابع قدماي وقلت له " إنت مجنون وهتودينا في داهية الله يخرب بيتك أيه اللي بتعمله ده؟!!" فقال لي في ضحكة سمجة كعادته "بس تعالى وملاكش دعوة".
وصلنا لمكتب المسئول وأنا أرتعد وصديقي ثابت وهادئ ولا يفعل شئ سوى اظهار ضحكته الرخمة التي تستفزني دوماً وبخاصة في هذا الموقف فهذا ليس وقتها أبداً وتلقي فوق رأسي ببرميل من الحمم البركانية التي تشعل قلبي فتزيده غيظاً فوق غيظه،وقابلنا مدير مكتب المسئول الذي تحدثنا له عبر الهاتف بكل ود وطالبنا بالإنتظار لحين أن ينتهي المدير من مقابلاته ومرت الساعات وأفواج تدخل وأخرى تخرج ومع خروج كل فوج نقول هانت ولكن كان يخرج من تحت الأرض فوج جديد يدخل ثم يخرج ويأتي غيره حتى ظننت أن بالداخل الكعبة المشرفة أو مقام أحد أولياء الله الصالحين وكل هؤلاء يدخلون لأخذ البركات منه في فعل متواصل يبدو أنه لن ينتهي ليوم القيامة.
ومرت ساعات أخرى وجاء الليل ومر منه ساعات وفرغ المكان وفجأة هل علينا المدير أخيراً كعابد خرج من صومعته بعد سنين من المناسك والورع فهب السكرتير واقفاً إحتراماً له ومع هبته فزعنا نحن أيضاً فقمنا واقفين وحين رآنا سأل سكرتيره بسرعة من هؤلاء يا فلان،فقال له "الإتنين اللي قولتلك عليهم العصر ياريس" فقال له وهو يخرج مسرعاً من الباب " خذ منهم أرقام تليفوناتهم وأسمائهم وأماكن عملهم وسنتصل بكم عند حاجة العمل لتعيين وظيفتكم..مع السلامة".
خرجت من المبنى وكل همي أن أحصل من صديقي على الروقة أم خمسة التي جعلني أدفعها على فشوش،فجملة "سنتصل بكم عند حاجة العمل لتعيين وظيفتكم" هى الجملة الأشهر لزحلقة من يتلطعون على أبواب الشركات يطلبون عملاً،لكن صديقي هذه المرة ضحك ضحكة مدوية أغاظتني جداً وقال لي " لقد فعلنا ما علينا ورضينا ضميرنا وخلاص" فقلت له وأنا امسك برقبته أريد أن أخنقه " لكن أنا ضميري مش مرتاح يا معفن إلا لما أخد الخمسة جنيه بتاعتي من رقبتك.دي تأكلني أسبوع حرام عليك.
هذا الموقف الذي قصصته عليكم لا يمكن أن أنساه بسبب خسارتي المادية التي دبسني فيها صديقي وعلى الرغم من تلك التغريمة الباهظة التي تكلفتها إلا أنها كانت سبباً في توطيد صداقتنا أنا وصديقي للأبد لأنه في ثاني يوم وفي نفس الموعد جائني اتصال من سكرتير المدير المسئول وطلب مني أن أحضر أنا وصديقي أوراق تعيننا لأن المدير أمس حين رآنا وكان مسرعاً كان يهم للحاق بمجلس تنفيذي تم من خلاله اعتماد بعض الوظائف للتعيين وكان من بينها وظيفتنا ورشحنا على الفور وخلال 16 يوماً من هذه المحادثة التليفونية كنت أنا وصديقي معينين بسبب كذبة اخترعها وهو يهرش في فروة رأسه أنقذتنا من الشارع ورمت بنا داخل وظيفة محترمة نفتح منها بيوتنا لليوم ولأول مرة في حياتي صداقتي معه ألاحظ أن الهرش في فروة الرأس يجبر الخواطر ويعين أصحاب البطالة ويفتح بيوتاً كادت تغلق.
في النهاية شكراً لصديقي على افتكاسته الكاذبة وأدعو الله أن يكتبها كذبة بيضاء لنا فقد كانت نياتنا خيراً وإن لم يستجب فالوزر كله سأتبرء منه وسأدبسه في رقبة صديقي كما دبسني في الروقة أم خمسة التي مازل يؤلمني فراقها لليوم.

وفقي فكري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق