الأربعاء، 14 ديسمبر 2016

أنا وسائق التاكسي

هل وجدت نفسك في لحظة مواجهاً نفسك بحقيقة قاسية وهى أنك لابد وأن تستقل تاكسي مرغوماً مكبلاً بهموم "كم ستدفع للسائق في أخر التوصيلة" بعد أن فاتك أتوبيس العمل وغادر مثل الصاروخ غير عابئ من بداخله بمأساتك؟!!
نعم تلك هى الحقيقة المرة وحتماً ستتقبلها شئت أم أبيت أو كن "رامبو" وامتنع عن الذهاب للعمل وتحمل تبعات ذلك.
وقفت على جانب الطريق مستتراً من سقيع صباح الشتاء بكوفيه صوف بنية اللون ألفها حول رقبتي ويداي داخل الجاكت الجلد أتصيد تاكسي "على أد حاله" أتوسم في صاحبة الرأفة وعدم المبالغة في تقدير الأجرة متشفعاً بحالة التاكسي المتهالكة،ما أن قيمت الوضع ووجدته قادماً من بعيد وزئير موتوره ينحر في الأسفلت حتى أخرجت يدي اليمنى على مضض وأشرت له راجياً الوقوف فوقف بسهولة ويسر،اندفعت داخله وأنا أسلم على السائق بجملة تقليدية باهتة دون أن أنظر له وأقول له العنوان بشكل نمطي،وما أن استقر جسدي على الكرسي الجلد حتى غمرني بماس كهربي عارض من شدة برودته،غير أن رجولتي لم تسمح لي أن أظهر ذلك الألم للرجل الذي يجلس خلف مقود القيادة،ثم نظرت له فإذا بي أجد شيخاً عجوزاً لكنه غير بشوش بالمره،فقلت حسناً لاريب فطالما كانت السيارة قديمة متهالكة والرجل شيخ كبير إذاً التوصيلة مباركة إن شاء الله وسندفع ما قل،وكفى المتعاملين شر الفصال والخناق.
انطلق التاكسي وكل جزء منه يشخشخ ويأن وكأنه يلعن اليوم الذي ركبته فيه،ولو أن أحداً طلب مني أن أقيم عمر هذا التاكسي لأعطيته مثل عمر السائق مرتين أو أكثر.
بمجرد أن انعطفنا للمين في شارع طويل فارغ من المارة والسيارات،انطلق لسان العجوز يتمتم،قلت لا بأس ربما يتلو أذكار الصباح فتركته يهمس احتراماً لخشوعه وهذا يسعدني فكل شئ يخدمني ويصب في هدفي الأعظم وهو دفع أجرة قليلة مقابل التوصيلة الإضطرارية لسيارة متهاكلة وشيخ عجوز واضف إلى ذلك رجل تقي وورع،فما أسهلها من توصيلة مريحة ققلب.
انتظرت حتى فرغ من تسابيحه ثم قلت له موحيا له بأني ملتزم مثله "بارك الله فيك يا اسطى..يومك جميل إن شاء الله" فنظر لي نظرة ثاقبة ثم انتظر لجزء من الثانية وقال في جمود لا يعبر عن جملته "نهارك ابيض يابني" اعتدلت ونظرت للطريق وقبل أن أصل لخط الأفق من بعيد حتى باغتني بسؤال فتح باب الحديث بيننا:
-         انت رايح الشغل؟
-         ايوه يا حاج
-         شغال فين؟
-         شغال في شركة كذا
-         بتحب شغلك؟
في هذا السؤال الأخير شعرت أني أمام مطب صناعي ليس على الأسفلت بل مطب كوره السائق بين يديه وألقاه في وجهي فجأه فجاوبته متحفزاً
-         طبعاً بحبه..أهي شغلانه بناكل منها عيش وخلاص يا حاج
-         تبقى مش بتحب شغلك..شاطر
تعجبت من كلمة "شاطر" التي شبكها في ذيل جلمته الأخيرة وشعرت بالغيظ منها فقررت أن أقلب فوقه الترابيزة وأحصره في نفس السؤال:
-         وانت يا حاج بتحب شغلانتك
-         لأ
هى فقط كلمة "لأ" ونظر للطريق وصمت،كسرني هذا العجوز برخامته وتمنيت لو انتهى المشوار ونزلت حالاً من جواره فقد علمت الآن لماذا كان جلد كرسيه بارد مثل سقيع القطب الشمالي.
ساد الصمت قليلاً بيننا وكانت كلمة "لأ" وتجاهله لي ناظراً للطريق خير دليل أنه لايريد أن أمارس حذلقتي وأباغته بكلمة "لماذا لا تحبه يا حاج" ليرد علي ويقول نفس ردي "أهي شغلانه بناكل منها عيش وخلاص يابني" فتتساوى كفتينا ويهدأ غل قلبي لكنه لم ولن يفعل هذا الرجل الخبيث الداهية.
اقتربنا من دخول الشارع الواقع به مقر عملي لكن الطريق مزدحم ويبدو أن الوصول سيستغرق أكثر مما ينبغي،فبدأت أتوتر وأصابعي تعلن عن ذلك التوتر بالضرب في انتظام على حافة شباك الباب الذي بجواري من فوق فتحة الزجاج،ليس لأني أخشى التأخر عن موعد العمل بل لأني أجد الجلسة مع هذا الرجل في تلك السيارة التي أشعر أن صوت موتورها يلعني في كل لحظة مثل جلوسي كمتهم أمام أبيه ويخشى عقابه ويالها من أزمة حقيقة،صرت بين رغبتين؛إحداهما النزول والهروب من أمام وجه هذا السائق والخلاص بجلدي كما يقولون والأخر هو الصبر حتى أصل لباب العمل والجميع يراني أنزل متباهياً من تاكسي قلما يجود به الزمان على موظف مثلي،فماذا أختار؟
هل أختار الطمأنينة والإستقرار النفسي أم تغلبني أطماعي وأتحمل من أجل الإستمتاع "بالفشخرة" الممتعة؟!!
أخيراً قررت النزول متنازلاً عن طموحاتي بعد أن رجح كفتة الخيار الأول احتمالية دفع مبلغ أقل على سبيل أني لم أصل للموضع الذي حددته في بداية الركوب.
أخيراً رأيت قدماي تلمس الأسفلت وأنحنى وأطلب منه تحديد الأجرة في لحظة فارقة بعدها ساد فيها الصمت مني منتظراً وأنطلق لسانه يقول "اللي تدفعه يابني".
شعرت بالطبية الملفوفة بحنية لا نهائية من جملة السائق،فلو كانت خرجت من سائق تاكسي شاب بسيارة جديدة فالتأكيد كل التأكيد أن ذلك مقدمة للـ"التدبيسة الكبرى"،لكنها خرجت من رجل عجوز وقور ذو سيارة متهالكة فبالتأكيد يقولها عن صدق ورضا.
أدخلت يدي في جيبي بهدوء وأخرجت خمسه جنيهات ومددت يدي بها للرجل وابتسامة الإمتنان تملأ وجهي،فسمعت بشكل مفاجئ كزلزال،صوت خشن يخرج من حنجرته أشبه بصوت من يشخر أثناء نومه فصعقت حين تأكدت أنه يقصد بها الإعتراض على الخمسة جنيه بأسلوب تعبيري مصري خالص وأتبعها بكلمة "أيه ده يا اخويا"
قلت له "خمسه جنيه ياحاج" فرد مسرعاً "الخمسه جنيه دي تلفها وتحطها في ؟؟؟ وعلى فكرة أنا مش حاج أنا مسيحي وبشتغل يوم الأحد شماس في الكنيسة وادفع بقى 20 جنيه بدل ما اسبلك الدين واخلي يومك طين فوق دماغ اللي خلفوك".
كل ما أتذكره بعد هذا السيل من الشتائم أني دفعت ولكن لا أعلم بالتحديد كم دفعت فقد أخذ الذهول عقلي وهممت اسابق خطواتي مبتعداً عن التاكسي وأنا اتسائل:
"مسيحي؟!!! أمال أيه الأذكار اللي كان قاعد يسبح بيها دي؟..وأنا اللي قاعد اقوله طول الطريق يا حاج يا حاج وهو في الأخر طلع شماس في كنيسة".
دخلت المبنى الذي أعمل فيه ولم ألاحظ أني لم أوقع بالحضور من شدة الإندهاش،حيث كانت الصدمة عارمة وفاقت كل الحدود،ولكم أن تتصوروا أني دفعت لهذا الموتور العاصي ثمن باهظ على سبه لي طوال الطريق بالإضافة أني رأيت وجهاً أخر لعواجيز لم يربيهم أهلهم ولم يربهم الزمن وجاءوا ليربونا ويخيفونا رغم عنفواننا وهرمهم إلا أن جمله المنسقة المتتابعة والواثقة وتعبيره الصوتي الصريح جعلوني أهتز وادفع بلا نقاش.
من يومها قررت قراراً نهائياً أنني في المرة القادمة حين يفوتني أتوبيس العمل لن أذهب للعمل مهما كانت العواقب وسأعود إلى فراشي لأحلم بأحلام وردية تعوضني خيراً عن هذا الكابوس الذي كاد أن يجعلني أغرق مرتبتي بالتبول اللإرادي،واشتري كرامتي التي بعثرت هذا الصباح الشوي العاصف.

وفقي فكري





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق