الثلاثاء، 17 يناير 2017

قرد محمود ياسين



"يلا ياهاني هنتأخر على الناس" بتلك الجملة استقر الأمر وأصبح القدر محتوماً بأن هاني صديق العريس المنتظر هو من سيذهب بمرافقته لأولى الزيارات لبيت العروسة للتعرف عليهم والتمهيد لطلب يدها فيما بعد بشكل رسمي.
تلك الزيارة الأولى هى في العرف اللقاء التمهيدي أو التحضيري لما سيسبق الزيارة الرسمية لأهل العوسة،مثله مثل اجتماع ممثلي الجهات الدبلوماسية المعنيين بحضور الإجتماع التنسيقي لتجهيز الأجندة النهائية للمؤتمرات التي يحضرها الملوك والأمراء،وفي تلك الزيارة تسليط الأضواء كلها من قبل أهل العروسة تكون على نافوخ عريس المستقبل المنتظر وكأنه قميص نوم حريمي مثير وضع في فاترينه عرض في ميدان عام لذا كان العريس متوتراً أيما توتر وهو يرافق صديقة هاني لبيت العروسة للتشاور وتحديد موعد حضور الأهل.
هاني هذا هو أحد أصدقاء العريس وأشجعهم فهو الوحيد الذي وافق على مرافقته من بين حوالي خمس أو ست أصدقاء كلهم وضعوا الببرونات في أفواهم وقالوا بكل بساطة نحن عيال ورغم أن هاني أقصرهم قامة وذو وجه طفولي ورغم أن مثل تلك المواقف تحتاج دائماً لوجود رجل ذو شنب أو كرش أو أصلع أو ذو قامة طويلة ممتلئة تبعث على الهيبة بين وفد الزيارة إلا أن العريس اكتفى به ممثلاً للحديث عنه أمام أهل العروسة على اعتبار أن العريس لابد أن يظهر الكسوف والهدوء ويترك المجال لمرافقه للصولان والجولان والتغني بمميزات العريس وصفاته الحميدة.
حين دخل الصديقان لبيت العروسة في نهاية رحلة انتقال قصيرة داخل شوارع القاهرة وجدوا البيت ممتلئ عن آخره بالبني آدمين في شوق لظهور المهدي المنتظر وكانت النساء تمثلن ثلاثة أرباع الموجودين أما الرجال فكانوا قلة كعادة هذا الزمن وكانت العروسة التي كان يربطها بالعريس علاقة حب أفلاطوني قد أوحت للجميع قبلاً وخاصة لأمها وخالتها الجالستين في مواجهة الصديقان بأن العريس يشبه الفنان محمود ياسين ولكن حين تفحصت أم العروسة الشابين لم ترى بينهم محمود ياسين فمالت على ابنتها وسألتها في حيرة "فين محمود ياسين يا بت" فردت العروسة وهى تسبل للعريس " ده يا ماما" وقالت الخالة التي دخلت في الحوار بعد أن مصمصت شفتيها "ده يابت شبه قرد محمود ياسين..خليكي ناصحة وخدي الواد الأمور اللي جاي معاه أهو يشبه هاني شاكر" وأعقبت جملتها بجملة أخرى في سرها "القرد في عين أمه غزال..يا أختي مراية الحب عامية".
تنحنح خال العروسة مثل مقرئ يسلك حنجرته لبدء تلاوة آيات الذكر الحكيم في مأتم بمنطقة شعبية ولأنه لعب دور ولي أمر العروسة لوفاة والدها منذ طفولتها فقد قطعت نحنحته أصوات رغي الحريم الجانبي وانتبهوا لما هو قادم ونظر للعريس وصديقه وقال فاتحا المجال للحديث "منورين يا ولاد" فرد هاني في ابتسامة مصطنعة "بنورك ياعمي" والعريس عاقد ذراعيه أمام صدره وهائم في عد بلاطات أرضية الغرفة ويبدو أنه لن ينتهي منها قبل يوم القيامة فأراد الخال أن يسترعي انتباهه ونظر للعريس وسأله" وانت دارس أيه يا ابني" فرد الصديق كأنه محاميه وقال والإبتسامة المصطنعة والخضة تكسو وجهه شحوباً "إحنا مخلصين ليسانس آثار ياعمي" فأتبع الخال سؤاله بسؤال ثاني "وبتشتغلوا؟" فرد هاني "ايوه ياعمي إحنا بنشتغل في شركة بعقد وإن شاء الله نثبت قريباً"،الآن فاض الكيل بخال العروسة وقرر أن يلقي القنبلة وقال في لهجة توبيخ" هو العريس أخرس؟" فاستمر هاني في الرد وهو ينظر للعريس فرآه مصراً على موقفه في النظر للأرض فأجاب الخال وهو يائس "الظاهر كده ياعمي..ماترد يابني اتكلم".
أخيراً أشاح العريس وجهه عن بلاطات الأرض ونظر لهما وحاول أن يتكلم فلم يخرج غير حشرجة صلبة وكأن أحباله الصوتية صارت كتلاً من الصخر القاسي من هول الموقف وكأنه يوم الحشر العظيم فاكتفي بالإشارة بالموافقة على ما قاله هاني صديقه وتنحنح وعاد للنظر في الأرض فاغتاظ الخال وقال لصديقه "هو صاحبك مكسوف أوي كده ليه..يابني قوله الجواز مفيهوش كسوف أمال هيجيب عيال ازاي" عند كلمة عيال تلك العرق نزل يشر من وجهه ولملم شتاته وألقى العريس أخيراً الصخرة التي تغلق مجرى حنجرته وقال "لا ياعمي ما احنا متفقين نأجل حكاية الخلفة دي شوية لحد ما نكون مستقبلنا".
لولا أنا رأس خال العروسة كان خالياً من الشعر بفضل عوامل تعرية الزمن لشده حتى إقتلعه من جذوره ولم يبقي منه شعرة واحدة بسبب بلاهة العريس وفجأة فز من المجلس وأشار للعروسة أن ادخلي للغرفة أريد أن أحدثك وما أن إنفرد بها حتى قال لها " انتي جيبالي عيلين يقعدوا معايا..لو كنت أعرف مكونتش جيت أصلا" فأسرعت العروسة تفهم خالها تحاول السيطرة على انفعاله وإعادة المياه التي يبدو أنها بدأت تسيل في كل مكان لمجاريها وقالت " لا ياخالي ده شاب كويس والله هو بس مكسوف من الحريم اللي قاعدين مبحلقة فيه..خده انت بس للشقة اللي فوق وهو هيفك ويبقى تمام".
جلس الثلاثة لا رابع لهم في انترية الشقة العلوية وبمجرد أن اختلوا بصومعتهم انفجر الشاب في الكلام معبراً عن طلبه يد ابنة أخته وصارت الأمور طبيعية خاصة بعد أن حكى له الخال قصته أيام شبابه مع حبيبته وكيف ارتبط بها فشجعهم على الحديث وتقاربت وجهات النظر ولم تستمر الجلسة الإنفرادية إلا دقائق تم خلالها الإتفاق على جدولة تواريخ الزيارات الرسمية لطرفي الزيجة والإتفاق على الخطوط العريضة للتجهيزات ولم يبدي الطرفين أي اعتراض على ما جاء بنص الجدولة وبدت العقول متفتحة ومتفاهمة لأقصى حد.
المشكلة العويصة كانت حين أراد العريس وصديقه هاني النزول من الدور العلوي للمغادرة فقد كان المرور أصعب من اجتياز شارع الموسكي في ذروة إنتعاشه التجاري حيث أعاقت أجساد النساء اللاتي شكلن حواجز خرسانية تملأ بسطة السلم للدور الأول وعدة درجات من سلم الصعود للطابق الثاني أي فرصة للمرور،لابد أن يمر العريس مرة ثانية وصديقه أمام أعين كل هؤلاء فقررا أن يضعا نظرهما في الأرض ويعدا درجات السلم وهما ينزلان خلف خالها الذي جعل من ذراعيه سيارة كاسحة للألغام يوسع بهما طريق للمرور وكاد المشهد أن يمر بسلام لولا خالة العروسة التي نادت على العريس وصديقه وهى تقول في تهكم " بقولك أيه يا هاني يا شاكر ابقى قول لصاحبك محمود ياسين ياخد باله من السلمه المكسورة" وفجأة سُمع صوت وقوع وخبط شديد فنظر الجميع من بسطة السلم فوجدوا العريس محمود ياسين وصديقه هاني شاكر مكومان فوق بعضهما في أسفل السلم بجوار السلمة المكسورة.
في النهاية تمت الزيجة على سلام ولكن بعدها بشهور طويلة لإعطاء فرصة للعريس للخروج من الجبس وإصلاح الخمس كسور التي لحقت به والحمد لله قد إلتئمت جميعها إلا من كسر واحد ظل معه بقية حياته.


وفقي فكري


الجمعة، 13 يناير 2017

معلمون يدمرون أمة



كنت في غاية الاحباط حين علمت أن لجنة الإمتحانات التي تمتحن بها ابنتي بالصف السادس الإبتدائي كانت بالكامل تغش في امتحانات منتصف العام الدراسي.
أنا لا اتعجب من مراقبين من المفترض أن يكونوا قائمين على حفظ المجهود للطالب المجتهد حتى يجيب على الإمتحان ببراعة ويحصد الدرجات النهائية بمجهوده ويمنعوا الطالب المهمل من الإستيلاء على مجهود غيره ويضعونه في قدره الطبيعي لكني اتعجب من ضمير رئيس لجنة إن كان ترك اللجنة بكاملها تغش بعلمه فهو عضو فاسد وإن تمت عملية الغش من وراء ظهره فهو اختيار خاطئ لمسئول لا يستطيع أن يكون على قدر المسئولية التي كلف بها وإن كنت أرجح الإحتمال الأول.
إن من يروجون لتسهيل الغش في الإمتحانات إنما يقوضون مستقبل أمة ويدمرونها من خلال أساسها المتمثل في براعمها ولو حتى كانت عملية التعليم في بلدنا سيئة وضعيفة لا يصح أن نقضي على بعض الأمل من الأطفال الذين ننتظر عبقريتهم وتحديهم لهذا النظام العقيم ونجاحهم في القفز للنور،فقد أخرج التعليم المصري رغم تهالكه وضياعة على مدار تاريخه العديد من النماذج الجيدة التي تجعلنا نتمسك بالحق في أننا يوما ما سينعدل حالنا بمثل تلك النماذج الشاذة عن القاعدة العامة للتخلف والنمطية التي تزرع في النشئ الجهل والأمية.
حين كنت صغيرا في قريتنا بالدقهلية وتعلمت في مدرستها مررت بمواقف كثيرة من الغش في اللجان التي كنت امتحن بها ولكني أحمد الله أني لم اتأثر في حياتي لكنها حطمت أجيالا من أمثال جيلي وقبله وبعده وحتى اليوم تستمر عملية التدمير بنهج منتظم ثابت قد يرعاه العادة على الغش أو اعتقاد من يمارسونه أن ذلك يعبر بالتلميذ لبر الأمان أو ربما يعتقد البعض أنه حق مكتسب للطالب الضعيف حتى يجد فرصة للمنافسة أمام الطلبة المحظوظين في الحصول على دروس خصوصية أو ذوي القدرات العقلية الأكثر ذكاءً.
الحقيقة أني حين كبرت وفهمت علمت أن فطرتي في عدم الغش ربما خوفاً من المراقب وقتها أو ثقة في قدراتي المعقولة أو توفيقاً من الله في العموم لكنها في النهاية تجربة أثبتت لي أن الغشاش يستحيل أن ينجح ليس في الإمتحان ولكن في الدنيا بمفهومها الواسع الشامل.
لن أذكر لكم الأحاديث النبوية التي تذم الغش وتقبح الغشاشين فكل المعلمين بالتأكيد ذكروها لطلبتهم بشكل أو بآخر ولن تجدي تلك الأحاديث نفعاً مع من يرعون الغش ومن يغش ولكني حزين كل الحزن على معلمين وإداريين من المفترض أنهم ذو خلق وعلم وخبرة تمنعهم من تدمير أساس أمة وتقضي على مجهود معلمين آخرين محترمين وطلبة اجتهدوا وسهروا حتى يتفوقوا ويخرج أصحاب الرسالة السامية جيل يستطيع الطموح منهم أن ينافس على بناء وتطوير تلك الأمة.
أعلم أن مقالي هذا سيصفه البعض بأن من كتبه مغيب عن الواقع وهؤلاء هم من خلقوا ليسيروا في درب العادة وصدق فيهم قول الآية الكريمة "هذا ما وجدنا عليه آبائنا" وأعلم أنه سيكون هناك من سيقرأه وهو يبكي على هذا الوضع المخزي وهؤلاء هم من ما زالوا يملكون ضميراً يغذيه قلبا ينبض بين ضلوعهم وعلى هؤلاء الأمل.
للأسف يا سادة كل من ترك تلميذاً أو طالباً يغش في الإمتحانات هو عضو فاسد لا يحب هذا الوطن بل يكرهه ويدمره من أساسه سواء كان يعلم أو لا يعلم فهو مجرم ويندرج نموذجه تحت أخطر أنواع الفساد الإداري الذي ينخر في كل مؤسسات وطننا وتخرب مصيره وتمنع وتقضي على أي فرصة لنجاته مما هو فيه.
المعلم والمراقب التعليمي الفاسد خطره مثل خطر القاضي الفاسد لأنه يعطي الحقوق لغير مستحقيه ويظلم من اجتهد والتزم بالحق فوضعه سواء بسواء في نفس سلة الخائن والمهمل والظالم .
كاتب هذا المقال ولي أمر تلميذة بالصف السادس الإبتدائي ويتألم بسبب ما يحدث وما سيحدث دوما داخل لجان الإمتحانات من أعمال غش وتسيب تحطم آمال الطالب المجتهد وتضيع الحقوق وترعى الطالب المهمل حتى يأخذ مكانا ليس كفؤا به فيدمر مصالح المواطنين ويكمل دائرة الفساد في مجتمعنا الممتلئ بما لايحتمل من ويلات.
وفقي فكري