دخلت عربة المترو بعد يوم عمل طويل وأنتظرت حتى يخلو
مكان لألقي جسدي من التعب وأريح قدماي ، جلست وأنا أتمنى أن تغفو عيناي للحظات
لحين الوصول إلى محطة نزولي ، وضعت على رجلي متعلقاتي واتكأت عليها ونظرت بالصدفة
لمن بالمقعد الذي يواجه عيناي فوجدت إمرأة أربعينية ذات ملامح مصرية أصيلة ، ترتدي
عباءة سوداء وحجاب للرأس أسود ، وتواري عيناها الدابلتين زجاج نظارة طبية ، وقد
أمسكت بشنطة بلاستيكية سوداء بها بعض المتعلقات ، ويتكأ على رجلها طفلها الصغير
الذي لم يصل إلى تمام عامه السادس بعد ، ملامح تلك السيدة مثل ملامح ملايين
المصريات ، ولا جديد في ذلك ، فبدأت استعد لتنغلق رموشي وأنعم بدقائق من النوم
الخفيف ، لكن دمعة ثائرة شقت وجنة المرأة ، وجرت في عنف جرح أنوثة خدودها ، أبت
ألا تنتظر لحظة أخرى داخل مقلتيها ، فألقت بنفسها تجري في صمت رهيب حتى استقرت على
فمها ذات الشفايف الباهتة الزرقاء ، رغم عدسات النظارة الغليظة إلا أنها لم تخفي
دمعات أخرى تستعد للصراخ والإعلان عن الخروج عن الصمت والإنتحار.
لم تعد عيناي تسبح في سبات الرغبة في النوم والراحة ،
فقد أرقّتها دمعة المرأة المصرية ، وانشغل عقلي بسؤال ألح علي ، لماذا تبكي هذه
المرأة في صمت رهيب ، لماذا تترك دمعة عاصية تفضح صبرها ورضاها ، لماذا لا تردعها
وتوقف تمردها ، أسئلة كثيرة جالت بعقلي ، وجاءت الإجابة من المرأة حين أخرجت لسانها
وابتلعت الدمعة داخل حلقها لتواريها عن الناظرين ، لقد تجرعت المرأة المرارة التي
بدمعتها وحكمت عليها بالإعدام وأجابت على اسئلتي في قوة وإصرار ، لم أفقد أملي في
أن أعرف لماذا تبكي ، وماهى قصتها ، وتمنيت أن أسئلها ولكني لا أستطيع ، يبدوا
أنها لن تسمح لي أو لغيري بأن أتطفل على خصوصياتها ، كما أن زوجها الجالس بحوارها
لا يعبأ بحالها ولا يهتم لشأنها ، لماذا أسال أنا ، لماذا أهتم أنا ، لماذا أضيع
وقتي في الإنتباه لقضية لا تعنيني ، الأفضل أن أنام حتى أصل إلى محطتي ولكن فضولي
مازال يأبى إلا أن يظل مهتم ، قد يكون سبب بكائها زوجها ، ربما أغضبها ، ربما حول
حياتها إلى حطام وكم من رجل قضى على أنوثة زوجته وكساها بالحزن والدبلان ، تباً لك
يارجل ألا تستحي من دمعة تشق وجه زوجتك مثل السكين ويراها الجميع ولا تراها أنت ،
هل هذه هى الرجولة ، لقد بدأت أبغض هذه الزوج العاق وأكاد أموت شوقاً لألطمه بقبضة
يدي على وجهه ، ليتوقف عن إيلام تلك المرأة المسكينة ، ولكن مهلاً ، لقد أرسل الزوح يده اليمنى لتلتف على ظهر
زوجته تواسيها ، هذا الرجل يعلم ما يحدث لزوجته ولكنه لا يملك أن يحتضنها أمام
الناس فآثر أن يواسيها ليخفف عنها ، من إذاً المسئول عن وجع تلك المرأة .
فتحت أبواب المترو في أحد المحطات ، دخلت تليمذات
المرحلة الإعدادية ، وأحدثوا حالة من المرح داخل العربة ، وأخرجوني من انتباهي ،
وكذلك المرأة التي زاعت عيناها لأول مره ، وتركت شرودها ، وراحت تلاحق تلك
التلميذات في اهتمام واضح ، ربما تذكرت معهم طفولتها ووقت صفاء القلب وفراغ العقل
من أي شئ إلا من الضحك الصادق من القلب ، وحديث الصديقات فنزلت دمعة أخرى كانت
تنتظر دورها منذ أن جلست أمامها ، وأخيراً ذكريات الطفولة أذنت لها بالإنتحار ،
ولكن هذه المرة لم تستقر على شفتهاها ، وإنما سالت من عينها اليمنى ، واستقرت على
الأرض في إعلان واضح عن الثورة على الواقع وحب الموت عن أن تعيش في ألم الحاضر ،
لقد عرفت الآن لماذا تبكي ، هى تبكي من ألم الفقر وضيق الحال ، ولكن هذا نعاني
كلنا منه فكم من فقير جفت عيناه من الدموع ولا يشعر به أحد ، فجميعنا نبكي ولكن
هناك من يبكي بدموعه ، ومن يبكي بقلبه ، وهناك من يصرخ ببكائه في ظلام الليل من
الحاجه ولا يسمعه أحد ، ولكن الرضا الذي يظهر على ملامحها لا يمكن أن نقول معه أن
الفقر هو باكيها ، لقد وصل بي الفضول حد الإلحاح لأعلم لماذا تبكي ، قولي لي يا
سيدتي قبل أن أبكي من شدة الرغبة ، أرجوكي إرأفي بحالي وخبريني قبل أن تقتلني
الحيرة .
أخيراً قررت أن أتوقف عن الفضول وترك الناس في حالها ،
مالي أنا ومال تلك المرأة التي لا أعلم من هى ولماذا تبكي ، وما الجديد في بكائها
، لقد قابلت الكثير ممن يبكون في صمت ، لكن صمتها الرهيب وكبريائها هو الذي دفعني
للفضول ، والآن سأتوقف عن تلك العادة البغضية ، أخيراً قررت أنا أغادر مقعدي
وأبتعد عنها ، وأجهز حالي للنزول ، فحالي أولى أن أتدبره ، فما في قلبي من هم
يساوي همها ولكن دموعي عزيزة مثلي وتأبى أن تنتحر مهما حدث ، فمازال عندها الأمل
في الحياه ، تصلبت عضلات قدمي استعداداً للوقوف ، وفجأة انهزمت المرأة الحديدية
وانكبت على وجهها وأخذت وصلة من البكاء بعد أن وضعت يدها على عيونها لتخفي جفونها
عن الناس ، والدموع تتوالى في الإنتحار على الأرض بشجاعة واضحة وكأنها تترجاني أن
أنتظر حتى أعرف لماذا تبكي ، تباً لكي يا امرأه لماذا لا تتركيني في حالي ، لماذا
لا تتركيني وشأني ، لا أريد أن أعرفك ولا أن أعرف لماذا تبكي ، في قلبي همومي وفي
عقلي أحزاني ، قلبي أولى أن يجد من يواسيه ، لم أجد منك إلا هماً فوق الهم ،
وبدلاً من أن استريح ضاع وقتي في وهم مللت من تحمله .
نظرت من خلال الشباك وعقلي شارداً غارقاً في التفكير ثم
رجعت لأتابع تلك السيدة الحزينة ولكني لم أجدها ، لقد غادرت وتركتني ، لماذا
تركتيني ، أبعد كل ذلك تتركيني ، أبعد أن تجازوت محطة نزولي من أجلك تتشبثي
بالنزول في محطتك وتغادري ، اسئلتي التي احتارت معك طوال رحلتنا ، نظرت تحت قدمي
فرأيت دموعها مازالت تصارع لحظات الموت ، حتى دموعها تركتها ونزلت في محطتها ،
ياامرأة تركت كل شئ وذهبت شكراً لكي على دقائق أغرقتينا في بحور حزنك ، حتى خرجت
أرواحنا حزناً على حالك وتتركي دموعك وحيرتي هكذا ، ربما كان علي أن لا أصدقك من
البداية ، وأن لا أنشغل بحال غيري ، فكم من دمعات نساء أضاعت أعمار رجال ، ولكني
أعدك بأني سأظل دوماً أجلس في هذا المقعد انتظرك وأنا أنظر تحت قدمي أتذكر دموعك
وهى تصارع لحظاتها الأخيرة إحتجاجاً على العيش في عيون يائسة .
وفقي فكري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق