اقتربت لأشتري شيئاً بدافع المساعدة ، وسألتها
بكم هذا ياسيدتي ، فردت علي بصوت متقطع مهزوز ، بجنيه واحد ، فأعطيتها خمس جنيهات
، وهممت بالإنصراف ، إلا أنها طلبت مني أن أنتظر ، حتى أحصل على باقي الخمس جنيهات
، قلت لها في خجل وصوت منخفض إحتفظي بالباقي يا أمي ، فأسرعت بالرد بصوت صلب ، إختفت
منه نبرات الإهتزاز قائلة "ما عند الله أبقى ، انتظر يابني حتى أخرج لك باقي
نقودك " ودفعت يدها المرتعشة في كيسها القماشي تبحث عن بضع جنيهات ، لم استطع
أن أنطق بكلمة واحدة ، جبهتي امتلأت بحبيبات العرق ، ومرت علي اللحظات وكأنها دهر
كامل ، لا أعلم إن كنت تصببت خجلاً من رفضها الصدقة ، أم أن عرقي استصغاراً لحجمي ،
بجوار قيمة وحجم تلك المرأة صاحبة المقام العزيز والنفس القوية ، لقد رفضت أن تأخذ
أكثر من مقابل ما اشتريت منها ، رغم أني كنت أنوي في النهاية أن أترك بضاعتي
والخمس جنيهات وأمضي إلى طريقي ، تمنيت في تلك اللحظة ، أن تنشق الأرض وتبتلعني من
شدة الإحراج من هذا الموقف ، أخيراً أخرجت كف يدها الضعيف ذو الجلد الناعم المتجعد
الرقيق ، وتظهر منه عروق نابضة متمسكة بالحياه حتى أخر لحظة ، وسلمتني الأربع
جنيهات ، فأخذت ما اشتريت ومضيت بسرعة وعيني في الأرض خوفاً أن تلتقي عيني بعينها.
بعد عدة خطوات ، توقفت وأبت قدماي إلا أن
تتصلب رافضة السير ، وجدت عندي وقت كافٍ لأراقبها من بعيد ، في نفسي إلحاح شديد
لأن أراقبها ، استدرت ووقفت في ركن خفي منها ، ومن شدة الإنتباه وحرصي على
المتابعة ، توقفت رموشي عن الحركة ، ووسعت حدقة عيني ، وأنا أتابع مشاهد حية
لأمراة مصرية قوية مثل الصخر ، عالية وشامخة مثل الجبال ، لم يحدث ثّم شيئاً مثير
للإهتمام ، فهى تبيع مالديها في صمت ، مع ابتسامة رضا تعلو وجهها الطاعن في السن ،
ربما لا تبيع أشياء ذات قيمة مادية كبيرة ، لكني اشتريت منها صفات الإباء والعزة ،
تعلمت في مدرسة فرشها التجاري البسيط معاني كثيرة لم أتعلمها من مدرستي ، ولم
أتعلمها من أستاذي في الجامعة ، ليست الثقافة هى ثقافة العلم فقط ، أول مرة أكتشف
ذلك ، أول مرة أعلم أن هناك ثقافة التعليم بالعدوى ، كم أتمنى أن أكون مثلها ، أن
أُعلم الدنيا بنظرة رضا أن الحياه بسيطة وسهلة ، وأن بضع لقيمات تكفي الجسد النحيل
ليظل يتنفس وتدب فيه الروح .
كانت لدي بضع دقائق لأراقبها ، لكني ظللت
وقتاً أطول استقي العلم والمعرفة ، تلك المعرفة التي شعرت أنها تعالج لدي خصال
سيئة ، اكتشفت أني موبوء بها دون أن أشعر ، كيف لي أن أعلم أني أحب المال والسلطة
والجاه والغنى ، كيف لي أن أعلم أني أحمل في نفسي صفات الطمع والتعالي والتكبر ،
لولاكي يا سيدتي لم أكن لأعلم أني سيئ أكثر مما أتوقع ، لولاكي لما شعرت أن الشعور
بالرضا مع عزة النفس والتعفف خصال صعبة المنال لمن مثلي ، كيف تصورت أن بمالي
أستطيع أن أحصد الدنيا بين يدي ، كيف بعقلي توقعت أن اللهث وراء المال هو الغاية
للوصول إلى كل شئ .
والله إني لأتمنى أن أعود الآن ، لأجلس
بجوارها اتعلم منها المزيد ، فهى مدرسة ، نحتاج جميعاً أن نمكث فيها لإصلاح عيوبنا
التي لا نشعر بها ، تسائلت ، هل أعود لها أعتذر عما بدر مني اتجاهها ، واقبل يديها
المتجعدة النحيلة ، لتسامحني على خطأي في حقها ، لابد أن اكتسب منها ولو صفة واحدة
، وأن أتحلى بمثل شجاعتها وأعود لها وافعل ذلك ، لماذا لا افعل ذلك ، سأعود لها ،
هممت أن أخطو أولى خطواتي نحوها ، ولكن يداً سميكة أمسكت بقميصي من الخلف فنظرت
فإذا بسيدة في الأربعين من عمرها ، قد بطرت يدها اليمني تستجديني لأساعدها ،
الشحوم التي تكسو جسدها ، ملامح وجهها المكتظ باللحم ، يوحي أنها تحيا حياة ليس
بها شقاء بعكس ما تظهره هى ، نظرت إليها في ضيق وعصبية ، قلت لها اتركيني ، لم تكن
عصبيتي في البداية إلا لأنها منعتني من العودة لسيدتي ، منعتني المرأة سمينة الجسد
من الحركة ، فاشتعلت غيظاً ، ولكني تذكرت ما تعلمته من سيدتي ، فربطت غضبي داخلي
وعدت إلى هدوئي ، نظرت إليها ومددت يدي بالأربع جنيهات التي أخذتها باقي ما اشتريت
من سيدتي ، فنظرت لها المرأة السمينة في احتقار وعدم رضا ، وصرخت في وجهي طالبة
المزيد ، قالت أنها عاجزة وتريد أن تشتري العلاج ، لم أشعر من هذه المرأة بالصدق ،
فما يظهر علي ملامح وجهها لا يوحي بما تقول ، كما أن اسلوبها في الطلب فظ وقوي
ومرتب ، وكأنها تحفظ تلك الكلمات ، وترددها في كل لحظة على كل الناس ، يبدو أنها
متمرسة على هذا العمل ، بالتأكيد شعرت أنها تتسول ولم أصدقها ، مددت يدي في غضب
نحو يدها لأخذ نقودي وأسير عقاباً لها على الطمع ، ولكنها قبضت على النقود بقوة
وتحدي ، وكأن الأربع جنيهات قد إلتصقت بجلد يديها للأبد .
لم تتوقف السيدة المتسولة على استجدائي لمزيد
من النقود ، ولن تتوقف طالما أنا أمامها ، بئساً لكي يا امرأة ألا تستحين ، ألا
يوجد في وجهك قطرة دم من حياء أو استعفاف ، ألا تشعرين ابداً بالرضا مهما جنيتي من
مال ، هل تتاجرين بعاهتك من أجل كسب المزيد من المال ، سحقاً لكي ، ألا تذهبين
للمرأة صاحبة العفاف والحياء ، تلك التي تبعد عنكي بضع أمتار وتتعلمي منها كيف
تكون الحياه ، في تلك اللحظات شعرت أني كنت طائراً في سماء الفضيلة ، بعيداً
بعيداً عن الأرض في رحاب سيدة فاضلة فقيرة ، لكنها غنية بأخلاقها ، والآن اصطدمت
بعنف بالأرض حين جذبتني تلك المرأة المتسولة ، علمت أن الدنيا فيها من هؤلاء
وهؤلاء ، منهم من يعلمك العفة والطهارة والرضا ومنهم من يعلمك الجشع والدناءة
والطمع ، وكلاهما يعيشان على الأرض ، فأهلاً بك في الأرض .
وفقي فكري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق