السبت، 11 أكتوبر 2014

عفاف




اقتربت لأشتري شيئاً بدافع المساعدة ، وسألتها بكم هذا ياسيدتي ، فردت علي بصوت متقطع مهزوز ، بجنيه واحد ، فأعطيتها خمس جنيهات ، وهممت بالإنصراف ، إلا أنها طلبت مني أن أنتظر ، حتى أحصل على باقي الخمس جنيهات ، قلت لها في خجل وصوت منخفض إحتفظي بالباقي يا أمي ، فأسرعت بالرد بصوت صلب ، إختفت منه نبرات الإهتزاز قائلة "ما عند الله أبقى ، انتظر يابني حتى أخرج لك باقي نقودك " ودفعت يدها المرتعشة في كيسها القماشي تبحث عن بضع جنيهات ، لم استطع أن أنطق بكلمة واحدة ، جبهتي امتلأت بحبيبات العرق ، ومرت علي اللحظات وكأنها دهر كامل ، لا أعلم إن كنت تصببت خجلاً من رفضها الصدقة ، أم أن عرقي استصغاراً لحجمي ، بجوار قيمة وحجم تلك المرأة صاحبة المقام العزيز والنفس القوية ، لقد رفضت أن تأخذ أكثر من مقابل ما اشتريت منها ، رغم أني كنت أنوي في النهاية أن أترك بضاعتي والخمس جنيهات وأمضي إلى طريقي ، تمنيت في تلك اللحظة ، أن تنشق الأرض وتبتلعني من شدة الإحراج من هذا الموقف ، أخيراً أخرجت كف يدها الضعيف ذو الجلد الناعم المتجعد الرقيق ، وتظهر منه عروق نابضة متمسكة بالحياه حتى أخر لحظة ، وسلمتني الأربع جنيهات ، فأخذت ما اشتريت ومضيت بسرعة وعيني في الأرض خوفاً أن تلتقي عيني بعينها.
بعد عدة خطوات ، توقفت وأبت قدماي إلا أن تتصلب رافضة السير ، وجدت عندي وقت كافٍ لأراقبها من بعيد ، في نفسي إلحاح شديد لأن أراقبها ، استدرت ووقفت في ركن خفي منها ، ومن شدة الإنتباه وحرصي على المتابعة ، توقفت رموشي عن الحركة ، ووسعت حدقة عيني ، وأنا أتابع مشاهد حية لأمراة مصرية قوية مثل الصخر ، عالية وشامخة مثل الجبال ، لم يحدث ثّم شيئاً مثير للإهتمام ، فهى تبيع مالديها في صمت ، مع ابتسامة رضا تعلو وجهها الطاعن في السن ، ربما لا تبيع أشياء ذات قيمة مادية كبيرة ، لكني اشتريت منها صفات الإباء والعزة ، تعلمت في مدرسة فرشها التجاري البسيط معاني كثيرة لم أتعلمها من مدرستي ، ولم أتعلمها من أستاذي في الجامعة ، ليست الثقافة هى ثقافة العلم فقط ، أول مرة أكتشف ذلك ، أول مرة أعلم أن هناك ثقافة التعليم بالعدوى ، كم أتمنى أن أكون مثلها ، أن أُعلم الدنيا بنظرة رضا أن الحياه بسيطة وسهلة ، وأن بضع لقيمات تكفي الجسد النحيل ليظل يتنفس وتدب فيه الروح .
كانت لدي بضع دقائق لأراقبها ، لكني ظللت وقتاً أطول استقي العلم والمعرفة ، تلك المعرفة التي شعرت أنها تعالج لدي خصال سيئة ، اكتشفت أني موبوء بها دون أن أشعر ، كيف لي أن أعلم أني أحب المال والسلطة والجاه والغنى ، كيف لي أن أعلم أني أحمل في نفسي صفات الطمع والتعالي والتكبر ، لولاكي يا سيدتي لم أكن لأعلم أني سيئ أكثر مما أتوقع ، لولاكي لما شعرت أن الشعور بالرضا مع عزة النفس والتعفف خصال صعبة المنال لمن مثلي ، كيف تصورت أن بمالي أستطيع أن أحصد الدنيا بين يدي ، كيف بعقلي توقعت أن اللهث وراء المال هو الغاية للوصول إلى كل شئ .
والله إني لأتمنى أن أعود الآن ، لأجلس بجوارها اتعلم منها المزيد ، فهى مدرسة ، نحتاج جميعاً أن نمكث فيها لإصلاح عيوبنا التي لا نشعر بها ، تسائلت ، هل أعود لها أعتذر عما بدر مني اتجاهها ، واقبل يديها المتجعدة النحيلة ، لتسامحني على خطأي في حقها ، لابد أن اكتسب منها ولو صفة واحدة ، وأن أتحلى بمثل شجاعتها وأعود لها وافعل ذلك ، لماذا لا افعل ذلك ، سأعود لها ، هممت أن أخطو أولى خطواتي نحوها ، ولكن يداً سميكة أمسكت بقميصي من الخلف فنظرت فإذا بسيدة في الأربعين من عمرها ، قد بطرت يدها اليمني تستجديني لأساعدها ، الشحوم التي تكسو جسدها ، ملامح وجهها المكتظ باللحم ، يوحي أنها تحيا حياة ليس بها شقاء بعكس ما تظهره هى ، نظرت إليها في ضيق وعصبية ، قلت لها اتركيني ، لم تكن عصبيتي في البداية إلا لأنها منعتني من العودة لسيدتي ، منعتني المرأة سمينة الجسد من الحركة ، فاشتعلت غيظاً ، ولكني تذكرت ما تعلمته من سيدتي ، فربطت غضبي داخلي وعدت إلى هدوئي ، نظرت إليها ومددت يدي بالأربع جنيهات التي أخذتها باقي ما اشتريت من سيدتي ، فنظرت لها المرأة السمينة في احتقار وعدم رضا ، وصرخت في وجهي طالبة المزيد ، قالت أنها عاجزة وتريد أن تشتري العلاج ، لم أشعر من هذه المرأة بالصدق ، فما يظهر علي ملامح وجهها لا يوحي بما تقول ، كما أن اسلوبها في الطلب فظ وقوي ومرتب ، وكأنها تحفظ تلك الكلمات ، وترددها في كل لحظة على كل الناس ، يبدو أنها متمرسة على هذا العمل ، بالتأكيد شعرت أنها تتسول ولم أصدقها ، مددت يدي في غضب نحو يدها لأخذ نقودي وأسير عقاباً لها على الطمع ، ولكنها قبضت على النقود بقوة وتحدي ، وكأن الأربع جنيهات قد إلتصقت بجلد يديها للأبد .
لم تتوقف السيدة المتسولة على استجدائي لمزيد من النقود ، ولن تتوقف طالما أنا أمامها ، بئساً لكي يا امرأة ألا تستحين ، ألا يوجد في وجهك قطرة دم من حياء أو استعفاف ، ألا تشعرين ابداً بالرضا مهما جنيتي من مال ، هل تتاجرين بعاهتك من أجل كسب المزيد من المال ، سحقاً لكي ، ألا تذهبين للمرأة صاحبة العفاف والحياء ، تلك التي تبعد عنكي بضع أمتار وتتعلمي منها كيف تكون الحياه ، في تلك اللحظات شعرت أني كنت طائراً في سماء الفضيلة ، بعيداً بعيداً عن الأرض في رحاب سيدة فاضلة فقيرة ، لكنها غنية بأخلاقها ، والآن اصطدمت بعنف بالأرض حين جذبتني تلك المرأة المتسولة ، علمت أن الدنيا فيها من هؤلاء وهؤلاء ، منهم من يعلمك العفة والطهارة والرضا ومنهم من يعلمك الجشع والدناءة والطمع ، وكلاهما يعيشان على الأرض ، فأهلاً بك في الأرض .

وفقي فكري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق