الخميس، 4 أبريل 2013

صبراً آل إبراهيم فإن موعدكم الجنه



قد يكون النفس الأخير ، قد تصبح النظرة الأخيرة ، ربما لن نتقابل مرة أخري إلا في الأخرة ، الدنيا بقي عليها خطوة وتنتهي ، الأن سأنتهي من العذاب ، الأن سينطلق لساني لينطق بعد سنين من الصمت ، الأن ستتحرك قدامي ، يداي ، سيتحرك جسدي بعد سكون طويل ، الأخرة هي مكافأتي علي طول الصبر وطول العذاب في الدنيا .
لا أحد يعلم ماذا سوف يحدث بعد لحظات لكن الثقة في الله كبيرة ، لقد وقف ابراهيم بجوار الزجاج العازل يشاهد من وراءه حالة إبنه عبدالله القابع داخل غرفة العناية المركزة وقد وضع علي الأجهزة ، جهاز التنفس الإصطناعي يدخل عبر حنجرته إلي رئتيه ليعمل بديلاً عن رئتيه اللتان توقفتا عن العمل تماماً ، عبدالله مازال لا يحرك ساكناً منذ الأمس ، حالته متأخرة والأطباء يائسون من أي استجابه ولكن قدرة الله كبيرة ، الله الذي غير قوانين الكون ونجا إبراهيم من نار الظلم قادر علي أن يحيي العظام وهي رميم ، عبدالله لم يكن يوماً إلا رميم ، ولد مشرقاً جميلاً لأخ توأم له ، كان مثل كل الأطفال يلعب ويضحك ويجري ، لم يكن هنالك أي مؤشرات علي ماسوف يلاقيه من آلام وعذاب ، لم يكمل سنته الثالثة إلا وقد تبدل الحال ، واصفر الوجه ، وشحبت الملامح ، بدأ في الضمور وإنهيار الصحة ، جري إبراهيم في كل مكان ، أخذ بالأسباب ودار بعبد الله علي كافة المستشفيات والأطباء ولكن لا تشخيص ، سافر خارج البلاد باحثاً عن النجاه لإبنه ولكن جاءت الصدمة ، جميع الأطباء غير قادرين عن تشخيص المرض ولا يعرفون له علاجاً ، كل ماعلمه الأطباء أن هذا المرض سيقضي علي وظائف المخ وظيفة تلو الأخري حتي تنتهي وتنقضي حياته في القريب .
كانت أقصي التقديرات أنه ربما سيعيش عاماً أو أكثر بقليل ، ولكن المعجزة أنه مازال يعيش حتي الأن ، لقد عاش بضعة سنوات إضافية عما قدره الأطباء علي مستوي العالم بفضل دعوة أمه التي استجابها الله في الحال لأنه أعلم بحالها فهو اللطيف الخبير.
كل هذا تذكره إبراهيم وهو يقف امام زجاج غرفة العناية المركزة يتابع بلهفة حالة عبدالله التي أصبحت متأخرة بعد أن فقد كافة وظائفة الحيوية ولم يعد يربطه بالحياه إلا وظيفة التنفس والإحساس ، لقد عاش منذ سنوات وهو ميت إكلينيكاً تقريباً ، ولكن الأب المؤمن مازال يثق في قدرة الله تعالي ويعلم يقيناً أن الله علي كل شئ قدير .
بعد ساعات طويلة من الوقوف أمام الزجاج العازل انهار جسد إبراهيم من التعب وألقي به علي كرسي قريب من الحجرة ليستريح قليلاً ، غفت عيناه للحظات واستسلمت لرغبة الجفون بعد صراع معها ، ولكنها في النهاية استسلمت وغطت في لحظات من النوم العميق ، ...أبي ... أبي ، من ؟ أنا عبدالله ياأبتي ، لقد أصبحت صحيحاً ياعبدالله وهاأنت تتكلم وتسير ، الحمد لله يا أبي ، ألم اقل لك أن الله علي كل شئ قدير ، نعم أعلم أن الله علي كل شئ قدير ، هيا ياأبي فلنذهب من هنا فنلذهب إلي بيتنا لتستريح ، نعم هيا ياعبدالله ، الحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله .
فجأه استيقظ إبراهيم علي كلمة الحمد لله .. أعلم أن الله علي كل شئ قدير ، ولكنه كان مجرد حلم ، ربما كانت أمنية تحولت إلي حلم ولكن في النهاية دبت بسببها الحياه في قلب كبير علي أمل أن تدب في القلب الصغير ، فجأه دخل الأطباء لحجرته ، دارت الدنيا حول إبراهيم ، ماذا يحدث ؟ ، هل مات ، هل جاءت اللحظة الأخيرة ، ماذا يحدث ؟ 
خرج الطبيب من الغرفة وهو يقول لإبراهيم الحمد لله لقد إنتظمت الرئتين في التنفس وربما سيخرج عبدالله خلال ساعات عائداً إلي البيت ، ولكن الطبيب يعلم الحالة المتأخرة لعبد الله فما زالت وظيفة التنفس تقاتل من أجل البقاء ولكن المرض يحاربها بضراوة ولذلك لم يبتسم واعتلت ملامحه الجدية والحزن ، الأب يعلم تماماً أن الموت أجل ليوم أخر ولكنه مازال يحوم حول ابنه ولكنه لا يفقد الأمل مطلقاً ، لقد عاش عبد الله سنين طويله بنظرية تأخير الموت إلي اليوم التالي فلماذا لا ينتظر الموت سنين أخري يعد فيها الأيام يوماً وراء الأخر .
نظر إبراهيم إلي داخل الغرفة ليري شبح إنسان ينام علي سرير أبيض مثل الملائكة ، ربما عبدالله الأن سعيداً بعودته إلي الدنيا شفقة بأمه وأبيه ، أو ربما يكون حزيناً علي تأخره يوماً اخر عن دخول الجنه ، هل عبدالله الأن يشعر بالدنيا أم أنه ميت تتجول بجسده الرياح العاصفة لتوهم البشر بأن الأمل مازال موجوداً .
هاقد عاد عبدالله برفقة أبيه إلي بيته ليعاني يوماً أخر في دنيا الناس بلا شعور ولا إحساس ، لينتظر مزيداً من الوقت من أجل قدر الله ، هل أنتظر ، هل سأظل هكذا أعذب أمي وأدمي قلب أبي ، لابد من الرحيل ، لابد من المغادرة ، أريد أن أتحرر من سجن المرض وأنطلق إلي رحاب الأخرة ، إن الجنة تنتظرني وأنا مشتاق لها .
عذراً أبواي ، عذراً أيتها الدنيا لم يعد لي مكان بين أهلك ، يكفيني شقاءاً ومراراً ، لم يعد بإستطاعتي الإنتظار يوماً أخر ، سأنطلق وبكل قوة إلي فضاء الولدان المخلدون ، أريد أن أتحرر من عاهاتي ، لقد إشتقت إلي عودة نظري لأري جمال الجنة ، لقد سئمت الشلل ، وأحلم بإنطلاق قدماي مثل عبدالله بن مسعود أطئ بهما حصي الزبرجد والياقوت ، كم أنا مشتاق إلي أن يعود إليّ حاسة الشم لأنتعش بريح الجنة وطيبها .
عذراً ابواي لا تحزنوا فإني مشتاق لجوار ربي ، لا تقلقوا فإني منتظركم علي الصراط لأخذ بأيديكم إلي ابواب النعيم الدائم ، أنا سأسبقكم إليها لأعد لكم بها قصوراً من النعيم ، لن أشتاق لكم فأنا سأراقبكم من الجنة وسأدعوا لكم ربي أن يرعاكم بفضله .
ارتسمت البسمة علي وجه عبدالله وعلت جبهته قطرة صافية من عرق من لؤلؤٍ صاف عذب ، وتوقفت الرئتين عن التنفس وتجمد الجسد النحيل ، وتجمد بداخله بعض الدم القليل بالعروق وغادر عبدالله في هدوء وسرور وانتهي مشوار العذاب ليبدأ طريق السعادة والفرح ، هنيئاً لك ياعبدالله بجوار ربك ، وهنيئاً لأبويك علي تجاوز الإختبار الصعب .
بسم الله الرحمن الرحيم {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } صدق الله العظيم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق