الثلاثاء، 18 أغسطس 2015

أنا الشيطان




سألتني في دهشة مصطنعة: أليس غريباً أن تصادف في طريقك أينما قصدت الممسوسات وزوجات الجن فأجبتها: وأين هم،فعاودت ابتسامتها التي تأتي من خلف لوح من الثلج: أمامك واحدة منهن.

لم يكن هذا بالشئ الجديد أن أجد من يعتقد أنه ممسوس وملبوس بجن سفلي من العالم الأخر فكثيراً منا تقمص أدوار الرعب في أفلام التعويذة والإنس والجن والفيل الأزرق وبرامج تحضير الجن وغيرها وصور نفسه ضحية لقهر قوى خارقة غير ملموسة وكان دوري دائماً أن أثبت أن العلم عنده تفسير لكل ذلك وأننا دائماً حين نتعمق في الجذور والذكريات تتضح لنا صوراً كنا نندهش من غرابتها تحل ألغاز نفوسنا.

لم أغب عن مواجهتها كثيراً في تفكير أو حتى مجرد محاولة فهم لغموض شخصيتها فربما تتقمص دوراً من أدوار الأفلام الأمريكية التي تظهر فيها البطلة في حلة من وهج الشيطان يكره كل من حوله ويدمرهم ليس إلا لمجرد أنه غاضب ويكره البشر.

صمت لبرهة أعطيها فرصة لأن تكمل حديثها البارد كهبوب الرياح في ليلة صيفية كان نهارها شديد الحر فتظاهرت بدور الواثق من أدواته واطرقت سمعي لها فقالت: لقد حكيت لي في الجلسة السابقة عن حالات قابلتك مثلي وأن هذا ليس بجديد عليك،فقاطعتها: نعم قلت حالات مثلك ولكني لم اوصفها بالمس من الجن،فسارعت بتلقف جملتي قبل حتى أن تصل إلى أذنيها ثم قالت وهى مازالت ترسل على وجهها تلك الإبتسامة الباردة: وهل تجد وصفاً لما أنا فيه أفضل من أني ممسوسة؟.

كانت الجلسة الثانية لي معها والتي طالت لعدة ساعات فالحالة تحتاج إلى استكشاف وتعب منذ البداية حتى أجد في النهاية الراحة بعد أن أحل لغزها وأصل بها إلى العلاج،ولأني أعلم في أعماقي أن مثل تلك الحالات عنيدة وغير مستقرة ولم أصل معها فيما سبق إلى علاج نهائي إلا انني استبشرت مع حالة هذه الشابة خيراً ربما يفتح لي باباً لعودة الثقة في إمكانياتي التي من المؤكد أنها لم تنبثق بعد نحو الإبداع والتمكن.

سألتها: هل تعتقدين في وجود الجن أصلاً؟

- الجن يا دكتور مذكور في القرآن فهل تنكر قرآنكم

- لا لم أنكره بالطبع ولكني أتحدث عن المس والزواج من إنسيات

- إن شئت اقرأ الآيه رقم (102) من سورة البقرة  أو الآية (6) من سورة الجن وغيرها الكثير وكلهم سيجاوبوك عن ذلك.

ثم لم تترك لي فرصة أن أتكلم وقبل أن تصدر زفيراً لهواء معبأ في صدرها  كمن يزيح هماً من فوق صدره لاحقتني بسؤال جديد:

- ألا تقرأ القرآن يا دكتور؟

- بالطبع اقرأه ولكن ظروف عملي تبعدني عنه كثيراً.

- ظروف عملك أم انك من الملحدين بالدين

لأول مرة اشعر بغيظ يجتاحني وأن هذه الفتاة أخدتني بعيداً عن هدفي،لم يكن شعور كتم العصبية وانفعالاتي نتيجة استفزاز الحالات شعور جديداً على مهنتي ولكن ما غاظني أن يتهمني أحدهم بالإلحاد،حاولت أن اتكتم خلف لساني على لفظ أسوء من السباب أنفس فيه عن نفسي وأصب فيه عليها جام غضبي من اتهامها ولكنها لم تترك لي مجالاً لذلك فبادرتني بجملة أخرى جاءت كمن يطرق على الحديد وهو ساخن: ولماذا لا تطلق لسانك وتتركه يسبني بما ترغب فيه فربما ذلك يعفيك من بعض توترك الذي أراه الآن داخلك،أنا كذلك أحياناً كثيرة لا استطيع ان أتحكم في لساني واتركه يسب ويلعن من حولي إن كان في ذلك راحة لي وهدوءاً يسكن روع قلبي،تصرف بتلقائية يا دكتور واطلق العنان لذاتك.

من منا الطبيب،من له أن يسأل الأخر،هل أصبحت الآن فريسة لمريضة شديدة الذكاء قلبت فوقي الطاولة فحولتني لمريض وارتدت هى ثوب الطبيب،قطعت حديثي لنفسي في محاولة أخيرة لأن انقذ نفسي من حصار لعبته الحالة بذكاء وقررت أنا أعاود الإمساك بزمام الأمور فوجهت سهماً يائساً لأوقفها عند هذا الحد: أنا هنا الطبيب،أنا هنا من يسأل وأنا هنا من يطرح الإستفهامات وعليكي أن تجيبي

- ولماذا أنت الآن عصبي ومنفعل إلى هذا الحد إلا إن كان ما قولته مس داخلك وغرق في أعماقك،يادكتور كلنا لدينا أعماق نخفي بداخلها رغباتنا ولكننا نخفيها خشية أن يطلع عليها المتلصصون لأنها ببساطة غير شرعية.

- كيف عرفتي اني أرغب في أن أطلق عليكي سيل من السباب؟

- وكيف لي ألا أعرف وأنا الآن اشعر بقشعريرة سارت من عنقك حتى مفرق قدميك خوفاً من مواجهتي،ألم أقل لك أني زوجة جن.

كان سؤالي الأخير بمثابة هزيمة لمهنتي وتسليم لسحر تلك الفتاة الغريبة فقررت أن انهي الجلسة سريعاً حفظاً لماء الوجه وإنهاءً لمواجهة أصبحت أنا فيها الطرف الضعيف،نظرت إلى أوراقي وتظاهرت اني ألملمها وأنا اقول لها: هكذا انتهت جلستنا اليوم فقد أرهقتك كثيراً ولابد أن تنامي ونكمل في جلسة قادمة.

- ولكني لا أنام

لم أعيرها اهتماماً فالأمر اصبح لي غير ذات اهتمام كما أنني أركز أكثر من أي وقت أخر في كيفية الخروج من هذا السجن الذي اصبحت قضبانه تضيق أكثر فأكثر مع كل لحظة أبقى فيها بداخل تلك الغرفة،ولكن فجأه تذكرت جملتها التي قالتها أثناء حديثنا حين قالت: الجن يا دكتور مذكور في القرآن فهل تنكر قرآنكم،قرآنكم!!! هل قالت قرآنكم،أليست مسلمة،لماذا قالت قرآنكم،ولم تقل قرآننا،مع من اتكلم إذا؟

كان هذا التذكر الأخير سبباً أخر لأن أغادر الغرفة مسرعاً نحو الباب قبل أن تنادي علي بصوت واثق فيه انتصاراً واضح: لا تفكر أبداً أن تهزمني فأنا لا أهزم،تلك جملة حولتني كالسحر فأنا بطبعي أعشق التحدي وفي جملتها هذه تحدي واضح لخصم يريد ان يستمتع باستكمال جولة أخرى من المباراة،يسدد فيها لكمات إضافية لفريسته،فاستدرت وانا اكتم غيظ قلبي ثم قلت لها:

- أتدري،في السابق قابلت حالة مثلك حاولت أن أعالجها ولكني فشلت وبعد فترة وجدتها تأتيني وقد أنار وجهها سعادة لا مثيل لها،أتدري لماذا هى سعيدة؟

- لماذا؟

- لأنها وحدها وبإرادتها استطاعت ان تهزم ظلام قلبها وبإصرارها وثقتها بربها الواضحين نجت مما هى فيه وطردت كل روح شريرة أرادت أن تتغذى وتقوى على حساب ضعفها واستسلامها فتحولت من مهزومة إلى منتصره وأنا كذلك لن أتركك حتى تصبحي مثلها.

لا أدري ماذا حدث ولكني في برهة من الزمن وجدت فتاة مختلفة،فتاة تحولت فجأة من الإنتشاء بالنصر إلى وجه قاتم وعيون اختفت منها لمعة النصر إلى حدقتين تنتطفأن وتنيران فجأه في حالة عصبية تتناغم مع حركة تبدو لا إرادية من رقبتها وكأنها تعاني نوبة من الصرع المفاجئ ثم قالت في حدة جديدة على نبرة صوتها: إني أكرهك وأكرهها.

لأول مرة اشعر اني تملكت زمام الأمور مرة ثانية فعدت إلى الكرسي الذي كنت قد اتخذت قراراً بمغادرته ونويت أن أكمل في هذا الطريق ولكنها وللمرة الثانية تفاجئني بعرض جديد بعد أن سيطرت على صرعها:

- ماذا يا دكتور لو أحضرت لك جنيه من العالم السفلي تعشقها وتشبع معها رغباتك المكبوتة في أعماقك على أن تتركني وشأني.

لم أرد على عرضها وانتابتني نوبة صمت رهيب فأردفت:

- إن شئت الآن تجدها أمامك في ابهى حلة وبكل ما يدور في عقلك من خيال لهيئتها وهى ملك يمينك تفعل بها ما تشاء،ثم اقتربت لأذني هامسة كشيطان يمتلك مهارة الإغراء وقالت :

-لك كل ذلك مقابل أن تتركني وشأني ونصبح اصدقاء ولك القرار .

لم أنبس بحرف واحد ولم استطع إلا ان أقول لها في دهشة وتسليم تام كمن غط في حالة من التنويم المغناطيسي الذي يضحك به اصدقائي على المرضى،ثم قلت وأنا ابتلع حفنة من ريق يريد أن يخرج من فمي كلعاب كلب مسعور:

- من أنتي؟

فقالت وهى مازالت تهمس في أذني كحسيس افعى يسيل السم من فمها بغزارة:

- أنا الشيطان .

وفقي فكري



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق