الاثنين، 23 مايو 2011

بلدي حتي أخر نفس

هذه ليست قصه اكتبها من وحي خيالي وليست مذكرات أو خواطر أسطرها هنا ولكنه موقف حدث معي وأردت أن أوصفه وأصف معه إحساسي بما قابلت وأنا أخرج من محطة قطار مصر،فلقد قابلت بالصدفه وبمحض القدر إمرأه طاعنه في العمر قد يقارب عمرها علي الثمانين عاماً وأحد الشباب يطلب مني أن اساعدها في مشوارها للوصول إلي محطة المترو الشهداء (مبارك سابقاً) لم أهتم حين إستلمت يدها اليسري لأساعدها للنزول علي درجات السلم بأن أسألها عن إسمها فهذا سؤال غير منطقي ولكني ومن أول وهله حين نظرت لها توقعت أن تكون من الصعيد فسألتها "إنتي جايه من الصعيد ياحاجه "فردت علي في صوت ضعيف مرهق "لأ يابني أنا من بورسعيد ولسه جايه دلوقتي من هناك" ثم سكت الكلام وسرنا نحبوا بالخطوات فهي لاتستطيع إلا أن تنقل قدم وتؤخر الأخري بثقل وبطئ شديد وللحقيقه فقد كنت منزعج في البدايه من بطئ حركتها التي أفقدتني اثنين من زملائي كانوا قادمين معي في رحلة سفري وتركوني وأسرعوا حينما وجدوا هذا البطء في المسير،وسرت مع المرأه التي لا أعرف اسمها وأنا أساعدها في صعود وهبوط درجات سلالم نفق المترو وصوت تلاحق أنفاسها يرتفع مع ارتفاع السلالم ويكاد يسمعه من يمر بالقرب منا لكثرة تعبها من السير لمسافه تعتبر طويله علي مسنه في عمرها.
وبعد أن كنت ناقم علي تعثري في طريق هذه المرأه تحولت فجأه إلي محب وسعيد بهذه الصحبه حينما انطلق لسانها يدعو لي بكل ألوان الدعاء لما أقدمه لها من جميل الصنيع وهي وحدها التي تقدر كم هو صنيع خير لإحساسها بالضعف واحتياجها للمساعده،وتمنيت أن يطول النفق أكثر من هذا لأغتنم هذا الوابل من الدعاء الذي حط علي رأسي من كل صوب وحد وتحول كالسيل يغمرني بغزاره فلقد قدمت لي مكافأة كبيرة علي مساعدتي لها وقبولي تحمل بطئها فلم تجد بيدها حيله إلا الدعاء والذي أرجو من الله أن يتقبله منها .
هذه المرأة أردت أن أستغل وجودها معي وأن أسألها بعض الأسئله فقلت لها "طب ليه ياحاجه تعبتي نفسك وجايه المشوار ده كله" فجاوبتني "لأ أنا ساكنه هنا بالمرج الجديدة مع أختي وكنت في بورسعيد علشان بيتي ولسه راجعه من هناك"إنتهي الكلام حتي هذه المرحله واستقلينا المترو إلي اتجاه المرج ووجدت لها مكاناً لشاب تطوع أن يجلسها بمقعده وجلست بالمقعد وظللت أنا واقف أنظر إلي تلك المرأة.
حينما نظرت لوجهها بتدقيق وجدت أنه قد رسم الزمن عليه خطوطاً عميقه وكل خط يحكي حكاية من الشقاء والتعب ولون بشرتها السمراء التي أحرقتها شمس الزمان تتلون بلون طين وطننا ،يدها اليمني متورمه وقد ترتعش أحياناً وتسكن أخري،إحدي عيناها معطبه ولا تري بها والأخري في طريقها إلي ذلك ،طولها لايزيد عن مائه وخمسون سنتيمتر ووزنها قد لا يتجاوز الأربعون كيلوجراماً، أما ثيابها فترتدي جلابية سمراء مما ترتديه امهاتنا الطيبات في الأقاليم،بإختصار هذه المرأة لأول مرة تنظر لها ستشعر بأن هموم الدنيا وأقدار الزمن قد إرتسمت علي كل تفصيلة بها.
شدني هذا التأمل لها أن أشعر أني أريد أن أتحدث معها ولو لبعض الجمل لأستكشف خبرة من الزمن أو علي الأقل أنال وابل أخر من الدعاء فهذه فرصه لايجب أن أفوتها وعلي اغتنامها حتي أخر لحظة.
كان قد توقف المترو في محطة نزولي وكان لابد أن أعبر بها من رصيف إلي أخر لتستقل المترو القادم لتكمل طريقها إلي المحطه التالية فوجدتها فرصة عظيمة وجلست أحاورها فسألتها "إنتي ياحاجه روحتي بورسعيد ليه؟" فردت علي قائلة "علشان استلم بيتي"واستطردت مبتسمه "مش هما خلاص هيدوني بيت تاني وهرجع بلدي" فقلت لها "هي بورسعيد بلدك ياحاجه" فردت علي"أيوه بورسعيد دي بلدي وأنا ساكنه هنا مع أختي مؤقت لحد ماأرجع تاني"فسألتها ولماذا تركتي بورسعيد واكتشفت المأساة قالت لي "أصل بيتنا لما اضرب في أيام الحرب أصل بيتنا كان جامد وكانوا حاطين عليه مدافع بتضرب العدو فضربوا بيتنا وبقي سوي الأرض ولما جوزي شاف البيت كده زعل ومرض مرض شديد فجيت بيه هنا للمستشفي لحد ما مات وفضلت أنا قاعده مع أختي في المرج الجديدة وقدمت علي بيت بدل بيتي اللي اضرب وبعتولي علشان اروح اشوفه" فقاطعتها "واستلمتيه ياحاجه" فقالت لي"لأ لسه هما قالولي هناك علي طول هنبعتلك علشان تستلمي البيت"فقلت لها مستعجباً"بس ياحاجه دي سنين طويلة من أيام التهجير اللي حصلت من خط القنال لحد دلوقتي ولسه هيبعتولك بعد كده علشان تستلمي البيت"فجاء ردها بنبرات الرضا والإستسلام"وماله يا بني هما قالولي هنكلمك ونقولك إن شاء الله قريب تيجي علشان تستلمي البيت"فجال في خاطري سؤال لهذه المرأة المتمسكة بالأمل في العودة بعد عشرات السنين إلي بلدها وسألتها سؤالاً"إنتي ياحاجه حاسه بغربة وإنتي بعيد عن بورسعيد "ففاجئتني بروح تدب في كل رعشة من جسدها الواهن وقوه مفاجئة  ورفعت يدها اليمني المتورمة وخبطت بها علي صدرها "طبعاً دي بورسعيد دي بلدي اللي اتولدت فيها وهرجع ليها " واستمرت في حديثها بالروح التي دبت فيها فجأة وقالت "دا أنا بس اروح هناك وأحط رجلي في المية المالحة وأنا أخف من كل حاجة في جسمي ويضيع كل الأمراض ".
في نهاية هذه الجمله وجدت دموعي تنهمر من عيني دون قصد فلم أشعر بها إلا وقد سالت تروي وجناتي كم هذه المرأة مصرة أن تعود إلي بلدها حتي وإن كان العمر قد وصل إلي اقتراب موعد الرحيل عن الدنيا ولكنها مازال بداخلها هذا الأمل الأخضر اليانع بالعودة إلي بلدها لتموت بها ،لقد شعرت في الحياة التي دبت فيها لحظة سؤالي عن إحساسها بالغربة في القاهرة وحركة يدها التلقائيه التي تحركت نحو قلبها لتشير دون قصد إلي قلبها وهي تقول "بورسعيد دي بلدي اتولدت فيها وهرجع لها"بأنها تقاوم لتسلم روحها إلي بارئها وهي علي أرض بورسعيد .
أليس عيباً علينا أن تظل هذه السيدة الطاعنة في العمر ورغم طول فترة غيابها عن بلدها مصرة أن تعود وستعود فكل كلمة منها تؤكد علي ذلك،ونحن الشباب مستعدون أن نتخلي عن وطننا لمجرد يأسنا من المستقبل أو إحباطنا مما يحدث حولنا من متغيرات ،إنها تعلمنا كيف نصبر علي بلائنا وأن نصر دائماً علي الوقوف في وجه التحديات من أجل أن نظل نحيا تحت ظل وطننا وتطء أقدامنا علي ترابه.
هذه العجوز البورسعيدية ملحمة في الصبر علي البلاء،دليل في عمق الوطنية وحبها وعشقها لتراب موضع ميلادها فهي تصر أن تعود إليها حتي أخر نفس لديها.
مرت الدقائق سريعاً وجاء المترو لتستقله في طريقها إلي المحطة الأخيرة وهي مازالت تمطرني بهذا الوابل من الدعاء وأنا أودعها ويتحرك بها المترو في مشوارها للوصول إلي منزل أختها وقلبي كله خشوع وانكسار مما شاهدت من مثل حي علي الوطنية المصبوغة بالفطرة من عجوز لا تشعر أن ما فعلته وما ستفعله هو الوطنية بعينها وسألت نفسي هل ستصل تلك العجوز إلي محطة وطنها ومسقط رأسها لتموت به في اطمئنان أم أن القطار سيتأخر بها ولن يصل إلي محطتها الأخيره وهي حية .

وفقي فكري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق