الأحد، 26 فبراير 2017

الإضراب..إذاً الملعقة في الشراب


كان حال  شباب جامعة القاهرة في ساعة متأخرة من ليل المدينة الجامعية خلال عام دراسي روتيني حال بائس وقد أطل الزمن على جميع الطلبة بكامل عددهم داخل غرفهم يذاكرون الساعات الحاسمة قبل آداء امتحانات نهاية العام الدراسي وكان هذا أيضاً حال الشاب الفلاح الذي جلس بغرفته مثل قرناءه بالفانلة الحمالات البيضاء "المقيحة" بجوار شباك غرفته يلتمس هفوة ريح بارد في ليلة صيفية ذات حرارة ورطوبة عاصفة وهو يقلب أوراق أحد الكتب يحدث بها صوتاً يكسر به أجواء مباني المدينة الجامعية الصامتة التي في العادة لا تهدأ أبداً من الضجيج والهرج والمرج ولكن حال ليالي الإمتحانات هكذا يقلب الصايع مصلي والمتحزلق الفزلوك متواضع هادئ رزين.
الملل هو أكثر شئ يسيطر على كل الطلبة داخل الغرف وعلى بطلنا الذي يتمرد في تلك اللحظة على ملله السحيق بالإسئناس بصوت قادم من بعيد من أحد الغرف المغلقة التي يجتمع بها طلبة فاشلون "صيع" لا يلقون لليالي الإمتحان بالاً وينشغلون كعادتهم بما لذ وطاب من لهو وقفشات ضاحكة ومشروبات لا أسمعكم الله بها من إسماً ولا وصفاً ودخان سجائرهم المحشوة يعبأ محيط الغرفة التي ينحشر فيها أعضاء الشلة في مساحة لا تتعدي 6 متر مسطح يجتمعون فيها كل ليلة كمقر لهم مثل علبة سردين رخيصة الثمن فوق بعضهم البعض يتبادلون قصص تعليق ومصاحبة بنات الجامعة المزز وأساطير سحر كل منهم عن رفيقه ويتنافسون في إفيهات النكات الجديدة "لانج" التي يتلاقفونها مثلما يتلاقفون رغيف ساخن بين رهط جائع وهم يُخمسّون في أنصاف خوابير البانجو "أبو بزر" والحشيش المخلوط بالحناء  .
الشاب الفلاح يسمع الصوت من بعيد كوميض لإغراء أنثى جميلة تتلاعب أمامه في دلع لكن هاجس الخوف من الإمتحان وخوفه كذلك من تريقة تلك الشلة "الجاحدة" عليه يمنعه حتى من مجرد التفكير في المرور من أمام غرفتهم ولو حتى بحجة الذهاب للحمام لغسل كوب الشاي وعمل دور جديد من مشروب ساخن آخر يلهي به نفسه ويضيع في إعداده بضع دقائق تقتل سنين الجلوس على مكتب المذاكرة العقيم.
فجأة سمع الفلاح ضجيج يتصاعد بالطرقات الخارجية للغرف السكنية ولا أحد يعلم ماذا يحدث فوجدها فرصة للخروج واستطلاع الأمر فأسرع بإمساك بكوب الينسون الملتهب وطل من باب غرفته ينظر فرأى شباباً يصيحون : لن نسكت كيف يحدث هذا..كيف يضربون دولة عربية هكذا ونحن صامتون، اتجه الطالب الفلاح نحو التجمع وقبل أن يسأل لاحظ أن غرفة شلة الأنس المسطولة على وضعها لم يخرج منها أحداً لمعرفة الأمر وكأنهم سكارى لا يشعرون بما يحدث حولهم،فتردد أن يطرق عليهم الباب أو يمضي للجمع ويشاركهم ما يحدث وآثر في النهاية أن يذهب ويسأل عما يحدث وسمع:
-         كيف تضرب أمريكا العراق..أين الدول العربية؟!!.
-         ياعم دول عربية أيه..إنت مش من هنا ولاّ عايش في كوكب تاني؟!!!
-         لن نسكت إن كان الحكام خانعون فنحن الشباب سنتحرك..هيا ياشباب نتجمع أسفل المباني وننطلق لتنظيم مظاهرة كبيرة حتى يسمع العالم رفضنا لما يحدث من تدمير للعراق.
كان الغضب يظهر عارماً بين الشباب والطالب الفلاح يتابع هذا الحديث العشوائي بينهم البعض والحماسة انتقلت لقلب بطلنا كذلك فعاد لغرفته مسرعاً وألقى بكوب الينسون ونصه كان لايزال ممتلئاً وارتدى قميصه وبنطاله وهبط بسرعه للأسفل فوجد تجمع رهيب من طلبة المدينة الجامعية قد يقارب ستة آلاف أو أكثر قد نزل من كل المباني السكنية يملأ الحدائق والفراغات وها قد بدء الهتاف: "بالروح والدم نفديك ياعراق..بالروح بالدم نفديك ياعراق" في تلك اللحظة فقط شعر أعضاء شلة الأنس بالدراما الوطنية التي تحدث على أرض المدينة الجامعية بجامعة القاهرة ففتح أحدهم شباك علبة السردين وبفمه خابوراً ملفوفاً وما أن فتحه حتى هبت سحب ممطرة من دخان أزرق على أرض المعركة بالأسفل ولولا أن المسافة بين الشباك وأرض النضال كبيرة لسطلت كل المقاتلين وتحول الهتاف : "الحرية الحرية لإخوانا المحششتية..الحرية الحرية لأنصار البانجو والكيميا والإستيلا الجهنمية".
في لحظات قليلة نزلت الشلة المسطولة للتجمهر المهيب واندمجوا بسجائرهم المحشية بما لذ وطاب من مغيبات وعي وسط الجمع وتحرك الركب نحو البوابة الرئيسية للمدينة الجامعية المطلة على شارع ثروت ولم يستطع الأمن بقلته أن يمنع آلاف الطلبة المتحمسين الغاضبين فتركوهم يخرجون في اتجاه السفارة الإسرائيلية بميدان النهضة المقابل لكوبري الجامعة واكتفى الحرس بالإبلاغ لاسلكياً لفيالق الأمن الأخرى المتمركزة أمام كوبري الجامعة للإستعداد وكان أبرز ثلاثة من أعضاء شلة الأنس سائرين بين الثورجية لكل منهم مصلحة لا علاقة لها بحقيقة الوضع المحتقن فعلياً بين الشباب الثائر: أحدهم اندمج بشدة في تمثيل دور الشاب السياسي رمز الكفاح فحملوه على الأعناق،بيمناه يسحب نفساً عميقاً من سيجارته المتكلفة وباليسرى يشير بحركات مؤازرة لهتافه يهتف ضد أمريكا والباقون يرددون أما الإثنين الأخرين فقد لفحهم الهواء العليل بنسماته ومع دخانهم الأزرق طلبت الحالة الضحك المزمن فاستجابوا لها وهم يهتفون بين الجمع.
بعد ثلاثة ساعات من الإنتفاضة الشماء استطاع الأمن عبر الحوار أن يعيد الطلبة داخل أسوار المدينة الجامعية مرة ثانية واختفى الثلاثة وقيل أن من كان يهتف تقمص دور عادل إمام في فيلم السفارة في العمارة وأعجب بمزة فاتنة كانت تهتف بحماسة خلفة مباشرة ونزل من على الأكتاف ولم يشاهد إلا ثاني يوم نائماً في غرفته أما الإثنان الآخران فقد قال شهود عيان نسجوا حولهم أسطورة مفادها أنهم نزلوا من جوار كوبري الجامعة متسللين من بين قوات الأمن واتجهوا لنهر النيل وهم يضحكون بهستيرية ويهتفون "مشربتش من نيلها..طب جربت تغنيلها؟" رغم أن الأغنية لم تكن ظهرت بعد ولكن يبدو أن هاتف روحاني أوحى لهم بتلك الكلمات الوطنية الرقيقة ويقال أن فرق الإنقاذ النهري أخرجتهم في أخر لحظة قبل غرقهم وهم يشربون من نيلها بالمنطقة المجاورة لمحطة الأتوبيس النهري.
الأساطير التي حيكت حول بطولات الثلاثة المساطيل لم تهم الطالب الفلاح على قدر ما ألهبه حماس الميثاق والعهد الذي أخذه آلاف الطلبة بعدما حبسوا داخل سور المدينة في ساعة متأخرة من تلك الليلة بالإضراب عن الطعام حتى تخرج أمريكا من العراق وكأن العالم سيفرق معه إضراب طلبة المدينة الجامعية وتفرق معهم على هذا العهد للنوم وصبح الصباح وعلمت القنوات الفضائية والجرائد القومية والمعارضة بالإضراب وحضر جميع مندوبي كل تلك الجهات للمطعم الضخم بالمدينة حتى يصوروا الإضراب ويكتبوا مقالات في سخونة الطعام الذي ينتظر من يأكله،وبالفعل مرت فترة الصباح المخصصة للإفطار بدون دخول طالب واحد لتناول الوجبة الإصطباحية فزادت حماسة الصحفيين والإعلاميين وطلبوا المزيد من الكاميرات ومندوبي الصحف لتغطية الحدث الوطني الهائل حتى جاء وقت الغداء واحتم الحدث الرئيسي أمام الجميع،وفي أول الدقائق ثبت الجمع على موقفه وتبقى من الوقت المسموح فيه بتناول الوجبة أكثر من ثلاث ساعات والصمت الرهيب يخيم على أجواء المطعم الكبير إلا من الإعلامين الذي انشغلوا بتصوير فضاء المطعم بلا مريدين.
الشاب الفلاح اجتمع في الغرفة المخصصة لشلة الفلاحين أمثاله يشدون من أزر بعضهم البعض أمام الجوع الذي بدء يضرب أمعاء الجميع ولكن الكل يأبى إلا أن يكمل في إلتزامه بميثاق وعهد كافة الطلبة بالمدينة الجامعية،ثم كيف يأتي للشاب منا شهية لتناول طعام ساخن لذيذ وإخواننا في العراق منذ أمس يدكون دكاً بمدافع وطائرات العدو الأمريكي؟!!!،أخيراً قرقعة البطون أصبح لها دوي يماثل دوي مدافع أمريكا ومع التركيز في المذاكرة استهلك العقل كل جزء من طاقة داخل الجسم ولم يعد يتبقى للشاب الفلاح سبيلاً إلا تلبية نداء الجوع وإغاثته ولكن كيف والجميع يترقب الجميع؟؟!!.
أخيراً جاءت الفكرة وتحجج الخروج لشارع المكتبات وتصوير ملزمة مهمة في الإمتحان القادم وفي لحظة غفلة بعد أن ارتدى ملابسه استعداداً للخروج تحرك الفلاح لدرج المكتب الذي به ملعقة الطعام الإستانلس وأخرجها وفي برهة دسها أسفل قميصه مابين الفانلة المقيحة والقميص واختلق حاجته الذهاب للحمام وفي الخلاء أخرج الملعقة ووضعها في شرابه كفدائي من منطقة القنال يأجج ساقه بالقنابل المحمولة مستعداً لتنفيذ العمليات الإنتحارية ضد العدو ثم نزل وفي قرارة نفسه أن يختلس الخطوات ناحية المطعم فيتناول وجبة الغداء دون أن يشعر أحد ثم يعود لغرفة الشلة مدعياً تضامنه مع الموقف الطلابي ولم يكن يعلم بما يعج به المطعم من كاميرات وصحفيين.
دخل الطالب الفلاح من باب خلفي للمطعم بعد أن عقد مناورة ميدانية في المحيط الخارجي الهادئ جداً على غير عادته وفوجئ بالمصيبة بمجرد دخوله،مئات الطلبة يزدحمون على طاولات تناول الطعام وكلهم تقريبا متسللون من الباب الخلفي وقد انحنى كل منهم للأسفل يخرج الملعقة الإستانلس من دكة شرابه فدهش الفلاح أيمُا دهشة ليس من تسلل كل هؤلاء الطلبة للمطعم وإسقاطهم الإضراب الجماعي ولكن من فكرة دس الملعقة الإستانلس في الشراب التي تخاطرت لهم جميعاً دون اتفاق في نفس اللحظة وبنفس الأسلوب وكأن جنياً سُفلياً قد همس لهم بذلك،فجلس ساخراً وهو يرى الإعلاميين يلملمون أجهزتهم وكاميراتهم في دهشة ويغادرون ويرى أصدقاءه الواحد تلو الأخر بما فيهم أعضاء شلة الأنس يدخلون لتناول وجبة الغداء وقد اختفى هتاف الحرية للعراق واستبدل بهتاف البطون تقول: الحي أبقى من الميت.
يقال أنه منذ ذلك اليوم أصبح وضع طلبة المدينة الجامعية بجامعة القاهرة للملاعق الإستانلس في دكة الشراب رمزاً لمقاومة الفكر الإستبدادي من قبل القوى العظمى لدول العالم الثالث كما يقال أن تلك الفكرة القومية الرائعة انتقلت فيما بعد ذلك اليوم لمدن جامعية أخرى بالأقاليم في الدلتا والصعيد تضامناً مع روعة الحركة خاصة مع تلك المدن الجامعية التي يبعد مطعمها عن الغرف السكنية بمسافة حوالي نص كيلو متر ويقترب أكثر من قاعات المحاضرات الجامعية.
 .
.
إلى لقاء في يوم جديد من يوميات فلاح تحت القبة...
وفقي فكري