الأربعاء، 28 ديسمبر 2016

الواد المسهوك والشبشب أبوصباع

وقف العامل المسهوك في ظلام الصحراء يغرق سماعة التليفون المحمول جملاً من الحب والهيام لحبيبته،كان الليل قد تعدى منتصفه بحوالي الساعة أو أكثر والواد الحبيب لا يشعر ببرد الشتاء القارص ولا بتجمد صوابع قدمه التي كانت مكشوفة تلعب خارج شبشب بلاستك بصباع.
كل كرفانات العاملين مثل المقابر وسط ظلام الصحراء وصوت الشخير لا يعلو عليه صوت والواد الحبيب هائم على وجهه والسهوكة قد بلغت من ملامحه مبلغها حتى قطعها صوت صريخه المفاجئ،شيئاً ما يبدو أنه غاظه لعب صوابعه خارج الشبشب أبو صباع أو ربما ضايقه صوته الذي يحمل كل المحن في أواخر الليل فأراد أن ينبهه بطريقته الخاصة.
كانت طريشة مميته قد أمسكت في إصبع رجله الكبير الأيمن وقد أقسمت في غيظ ألا تتركه إلا وهو ميت وكأن بينها وبينه تار والواد الحبيب فجأه تحول لبركان هائج يصرخ بلا توقف حتى أوقف شخير الكرفانات وأضيئت اللمبات وتسارعت الخطى نحوه وفي لحظات كان الجمع إلتف حوله إلا الممرض المسئول الأول في مثل تلك الحالات كان صوت شخيره مازال يعلو ويعلو حتى غطى على أصوات الزعيق والإستنجاد به من كل صوب وحدب.
الخبط على باب الممرض كان مثل أصوات قرع طبول الحرب،محاولات فتح الباب عنوة لم تفلح فقد وضع الممرض شومة كبيرة دقرها خلف الباب وكانت شومة عنيدة أمينة على شخيره ولم تسمح لكل تلك الأجسام بالنجاح في اقتحام الباب حتى أيقظه الله من عنده وأخد يتثاب في برود شديد وكأنه عريس في صبحيته وبالعافية رد وقال في صوت أخنف رخيم " أيه فيه ايه ياجدع إنت وهو"
-         افتح يا أستاذ فتحي الواد مدبولي قرصته طريشه وهيموت تعالى إلحقه
-         وأنا هعمله أيه بروح أمه طالما قرصته الطريشة يبقى هيموت روحوا ناموا
-         ننام أيه يا أستاذ فتحي افتح الباب وتعالى شوف الواد انقذه بأي حاجه
فتح الممرض الباب في برود شديد وبطء حركة وقال لهم بمجرد أن رأي وجوههم يحملون العامل بين أذرعهم والفزع يسيطر عليهم" أنا بقولكم طالما قرصته طريشة يبقى هيموت" ثم نظر للواد الذي كان منذ لحظات مسهوكاً وأصبح الآن يصارع الموت وقال له كعادة بروده في الحديث" يابني انت هتموت بكتيره كمان ربع أو نص ساعة،إنت ودورتك الدموية بقى" ثم أغلق الباب في وجه الجميع وعاد لينام.
بعد ربع ساعة كانت السيارة الدوبل كابينه تجري في مدق صحراوي طويل في وسط الظلام متجهه لأقرب مستشفى تقع على بعد 150 كيلومتر وفي الكرسي الأمامي يجلس الممرض الثمين ذو اللحية الكثيفة والوجه المكتظ والشعر الهائش يدخن سيجارته باستمتاع وبجواره السائق يصارع حصوات المدق بالتشبث في المقود بكل ما فيه من عضلات،أما في الخلف فكان الواد الحبيب ملقى بالعرض على الكنبة الخلفية يصارع الموت والتأوهات تملأ الكابينة بكل صخب،حتى جعلت سخط الممرض يصل ذروته فالتفت له وقال ودخان سيجارته يغرق وجه الواد المقروص"يابني اسكت بقى خوت دماغنا،كل لحظة أه أه،ما احنا بنجري أهوه هنعمل ايه اكتر من كده نطير يعني؟!!"
صراخ العامل ملأ الصحراء بعويله واستنجاده حتى بلغ الغيط عند الممرض مبلغه فطلب من السائق في غضب أن يوقف السيارة ونهر مدبولي وهو يهدده "والله العظيم أرميك هنا في الصحرا لو مبطلتش خوته أنا مش ناقص،ما أدينا لفينك ببطانية وكوبيرته أهو وقافلين ليك الإزاز كله علشان متبردش وبرضوا قاعد تتأهوه طب اعملك أيه تاني"،فرد السائق باستغراب وهو يتعجب من كلام الممرض الذي هربت منه دماغه كالمسطول وقال له في رجاء "يا استاذ فتحي الواد مدبولي قرصاه طريشة وبيموت مش واخد دش ميه باردة وعايز يدفا" ثم التفت لمدبولي مطيباً "معلش يابني خلاص هانت كلها 20 كيلو ونطلع للأسفلت واجري أوصلك بسرعه وخير إن شاء الله" فأجابه الممرض في تهكم وقد أعاد السائق تشغيل المحرك وانطلق "توصله أيه وخير أيه ده المفروض يكون ميت من ربع ساعة،أنا مستعجب لسه عايش لحد دلوقتي إزاي وواجع دماغنا أي أي لحد ما جبلنا صداع" .
طوال الطريق الذي استمر حوالي ساعة ونصف كان الواد العامل الحبيب المقروص مازال يتأوه ولا يتوقف بين الحين والأخر عن الصريخ بأعلى صوته وهو يقول "أه ه ه ه " حتى أنه قالها عشرات المرات بأعلى صوته كأنه قرصته حيه لكن الجميل في الموضوع والغريب والمدهش في نفس الوقت أنه ظل على قيد الحياه ولم يمت رغم مرور ما يقارب الساعتين وقد استقبله طبيب الطوارئ بمجرد أن وصلوا أخيراً للمستشفى وهو يسأل الممرض وفتحي يجيبه في قرف وزهق :
-         هو فيه أيه الراجل ده؟
-         قرصته طريشه ياسيدي
-         بقاله أد أيه كده؟
-         بقاله يجي ساعتين
-         ولسه مماتش غريبة
-         والله وأنا كمان مستغرب ياريته كان مات وارتحنا من صوت أمه الفقر
قبل أن يكمل فتحي جملته كان الطبيب بمساعدة الممرضة قد  كشفوا عن مدبولي البطانية والكوبيرته الملتف بهم وما أن خلعوها حتى تساقطت منها 10 عقارب سامة تتلوى في الأرض فصرخت الممرضة وجرت مزعورة واختفت في غرفة التمريض وفتحي يضحك كأنه يشاهد فيلم كارتون وهو يقول للواد المقروص "أه علشان كده بروح أمك كنت قاعد تقول أه طول الطريق وأتاريها العقارب هرياك ياعين أمك قرص،والله انت شكلك واد فقر من كله".
طبيب الطوارئ استمر في دهشته وهو يفرد اصبعي كفه الأيمن أسفل ذقنه متجاهلاً رخامة فتحي الممرض وقد عرى الواد الحبيب بلبوص كما خلقته أمه إلا من بوكسر قديم معفن ورأى لسعات العقارب في كل مكان في جسده وهو يقول واصابعه تعد عدد اللسعات "كيف مع قرصة الطريشة المميتة وحوالي 10 لأ 11 لسعه عقرب وبرضه الواد ده لسه عايش أنا مستغرب" فرد عليه فتحي باستهزاء "متستعجبش يا دكتور العمال عندنا بسبع أروح مبيموتوش".
بعد الفحص الكامل للمريض كان النهار قد أضاء الدنيا ومازال مدبولي المسهوك حي يرزق والدهشة الكاملة مستمرة على وجه الطيب ولم تفارقه خاصة بعد أن تأكد بكل شكل طبي أن العامل سليم ولا أثر في جسده لأي سم  ولا حتى سم عقرب ولولا أنه رأى بعينه لدغات العقارب الإحدى عشر لكان اتهم الممرض ومدبولي وحتى السائق بالكذب وادعاء الإصابة والإزعاج لكن كل الفحوصات أثبتت خلوه من هذا رغم اللسعات الملتهبة الواضحة أمامه الآن.
تخلى الطبيب عن كل ضوابط الإحترام وفط فجأه من كرسيه وكأن عقرب من العشر عقارب قد لدغته وهو يهلل ويصرخ "الله أكبر..الله أكبر..وجدتها..وجدتها" فارتعد الممرض فتحي لأول مرة في حياته وبان على وجهه الهلع وتخلى هو الأخر عن بروده ورخامته المعتادة وجرى هو والسائق معتقداً أن الطبيب يرتدي حزام ناسف لكنه أدركهم وهو يقول "ده اكتشاف علمي جديد" ونزل على الواد مدبولي المسهوك بوس وأحضان فنظر فتحي لزميله السائق وهو يقول له وقد عاد لبروده وبطء كلماته مرة أخرى "أنا مش عارف الدكتور ده ارهابي ولا شمال" ثم عادا له وفتحي يسأله "خير يادكتور طمنا الواد مدبولي هيعيش؟" فأجابه بكل حماسه وقد أقلع عن تقبيل الواد المقروص وقال "طبعاً هيعيش وبسببه اكتشفنا إن قرص العقارب بيوقف وبيشفي من سم الطريشة وده إعجاز علمي" فذهب فتحي مسرعاً لمدبولي المسهوك وأمسكه من ياقة القميص يخنقه ويقول في غيظ "بقى انت يا بن المحظوظة تكون سبب في اكتشاف علمي..انت يامعفن؟!!!!".
انقضى الموقف وعاش الواد مدبولي الحبيب المسهوك متفاخراً وملأ الدنيا ضجيج بأنه كان سبباً في الإكتشاف العلمي الفظيع ولم يتوقف عن الحب في أخر الليل في الصحراء بل استمر يتجول في اصرار في نفس الأماكن حول كرفانات إعاشة العاملين ولكنه كان يتجول وقد استبدل الشبشب أبو صباع بكوزلك ذا رقبة طويلة حتى الركبة ولبس أسفله 10 شربات سميكة حتى لا تستطيع طريشة جديدة أن تلتهم صباع قدمه الكبير مرة ثانية وكان دائم الإحتفاظ بعشر عقارب سامة في برطمانات زجاجية بغرفته كنوع من الإحتياط تحسباً لأي موقف مشابه وبذلك استغنى العاملين عن خدمات الممرض فتحي الرخم ونقل لمكان أخر وقام مدبولي هو بدور الممرض الجديد تخصص قرص طريشة يتفزلك بهم على باقي العمال والمؤسف أن مدبولي في النهاية لم يتزوج البنت المزة التي كان يغرقها بكلماته المسهوكة المعسولة وحين سأل عن سبب ذلك قال "كان وش أمها شوم عليا وبسببها كنت هموت"هكذا الرجالة يا ستات لا أمان لهم مثل الطريشة تمام.
وفقي فكري

السبت، 17 ديسمبر 2016

الكذبة البيضا والورقة أم خمسة



إنها الكذبة التي رسمت مستقبل شابين،والمستقبل الذي بني على كذبة ليس له رجلين كما كانت تقول لي جدتي أم أبويا.
تلك الحكمة التي أؤمن بها دوماً مثلها مثل الحكمة الأخرى التي تقول "بيدي لا بيد عمرو" وأنا وعمرو هذا لنا قصة كان بطلها كذبة من أم رجلين ولابد أن أعترف لكم بها،والإقرار بالحق فضيلة عسانا أن نتوب ولكن مع توبتنا لابد ألا نحطم المستقبل الذي بنيناه وإلا فسأشعل النار في عمرو هذا وبعدها أسلم نفسي لأقرب قسم شرطة.
المقدمة السابقة أكتبها ويدي ترتعش بسبب عمرو هذا الذي قادني للرزيلة من أوسع أبوابها وإليكم القصة كاملة بلا حذف ولا بتر وربنا ما يقطعلنا عادة في فضح بلاوينا التي خفاها الزمن.
يحكى أن عمرو هذا قام بالهرش في فروة شعره وافتكس افتكاسة لم يسبقه لها أحد من العالمين،تلك الإفتكاسة جاءت بالصدفة حين كان يحك جلد شعره بسبب جرب أصابه فجأة بلا سابق إنذار وجاءته الفكرة وكانت هى الملهمة التي أنقذت حياته وحياتي من الضياع والتشرد على الأرصفة في ذلك الوقت.
لم أفهم نظرة عمرو لي وقد كان صديق العمر ورغم معرفتي الطويلة به لم أستطيع أن أفهم ما وراء تلك البحلقة الكرومبية لوجهي ويبدو أنه كان يفكر بعمق وهو ينظر اتجاهي وطبخته التي يعدها برأسه لم تنضج بعد ومازالت في طور الرسم،انتظرت حتى أنزل أظافره من فروة شعره وتوقف عن الحك وهممت أن أسأله عما يفكر به فسبقني بجملة سريعة مقتضبة أكدت أن الطبخة جاهزة للإلتهام وقال "تحب تتعين في الشركة النهاردة؟" كدت مع نهاية جملته أن أجري وأبحث بسرعة عن شومة وأنهال بها على رأسه التافهه التي أكلها الجرب وصار بسببها لا يفرق بين الهبل والواقع وقلت له :"نتعين أيه يا حمار إذا كان الناس اللي بقالها 10 سنين وقربوا يطلعوا معاش من الدنيا لسه متعينوش قوم تيجي إنت يا فسل وتهرش في راسك وتقول بكل تناكه تحب تتعين في الشركة النهاردة؟..لا يا سيدي خليها بكره النهاردة أنا مش فاضي عندي غسيل" ومع كلمة غسيل أدرت له ظهري ومشيت خطوتين أو ثلاثة فناداني برخامته المعهودة وقال في برود : "إنت حر بس متجيش بعد كده تقول صاحبي باعني".
هذا الصديق الرخم الذي بلاني به الله في تلك الدنيا أسال لعابي بأخر جملة نطقها لسانه وبدأ عقلي يطنطن مثل الذبابة التي تدور حول صينية بقلاوة طازة فتوقفت واستدرت وقلت له محاولاً زعزعته عن موقفه : "إنت متأكد ولا ضاربلك جوانين زفت من اللي بتشربه كل يوم ع الصبح؟" ضحك وقال لي "تعالى وجرب مش هتخسر حاجه" فقلت له وأنا ألف ذراعي الأيسر خلف رقبته في لفتة من الصداقة الحميمية "وماله ورينا يامعلم" فأسرع ومد كف يده الأيمن في الهواء وقال "إيدك على خمسة جنيه" فأبعدت يدي من حول رقبته بسرعة وأنا أقول " يا حلو بانت لبتك..قول بقى انك عايز تثبتني في خمسه جنيه اشتغالة وتدور في الشغل تقول إنك ثبتني في ورقة بخمسة".
بعد ربع ساعة وجدت نفسي واقفاً بجواره أمام كابينة ميناتل بالشارع وبواسطة كارت الإتصال الممغنط أبو خمسة جنيه الذي دفعت ثمنه كاملاً كان صديقي عمرو يتصل بشخص ما ويقول له :
-          ألووو.حضرتك إحنا من طرف ... (وذكر اسم مسئول كبير في مجال عملنا وقد كان استاذاً لنا في الجامعة أيضاً)... وعايزين نيجي نقابل المدير المسئول في الشركة.
-         اتفضلوا تعالوا هو موجود دلوقتي.
وأغلق الهاتف وأنا متسمر في الأرض وكأنما أصابتني صاعقة من السماء والدنيا تدور وتلف بي ولا أدري ماذا أقول لكني قاومت الخوف والكهرباء التي ضربت رأسي حتى أصابع قدماي وقلت له " إنت مجنون وهتودينا في داهية الله يخرب بيتك أيه اللي بتعمله ده؟!!" فقال لي في ضحكة سمجة كعادته "بس تعالى وملاكش دعوة".
وصلنا لمكتب المسئول وأنا أرتعد وصديقي ثابت وهادئ ولا يفعل شئ سوى اظهار ضحكته الرخمة التي تستفزني دوماً وبخاصة في هذا الموقف فهذا ليس وقتها أبداً وتلقي فوق رأسي ببرميل من الحمم البركانية التي تشعل قلبي فتزيده غيظاً فوق غيظه،وقابلنا مدير مكتب المسئول الذي تحدثنا له عبر الهاتف بكل ود وطالبنا بالإنتظار لحين أن ينتهي المدير من مقابلاته ومرت الساعات وأفواج تدخل وأخرى تخرج ومع خروج كل فوج نقول هانت ولكن كان يخرج من تحت الأرض فوج جديد يدخل ثم يخرج ويأتي غيره حتى ظننت أن بالداخل الكعبة المشرفة أو مقام أحد أولياء الله الصالحين وكل هؤلاء يدخلون لأخذ البركات منه في فعل متواصل يبدو أنه لن ينتهي ليوم القيامة.
ومرت ساعات أخرى وجاء الليل ومر منه ساعات وفرغ المكان وفجأة هل علينا المدير أخيراً كعابد خرج من صومعته بعد سنين من المناسك والورع فهب السكرتير واقفاً إحتراماً له ومع هبته فزعنا نحن أيضاً فقمنا واقفين وحين رآنا سأل سكرتيره بسرعة من هؤلاء يا فلان،فقال له "الإتنين اللي قولتلك عليهم العصر ياريس" فقال له وهو يخرج مسرعاً من الباب " خذ منهم أرقام تليفوناتهم وأسمائهم وأماكن عملهم وسنتصل بكم عند حاجة العمل لتعيين وظيفتكم..مع السلامة".
خرجت من المبنى وكل همي أن أحصل من صديقي على الروقة أم خمسة التي جعلني أدفعها على فشوش،فجملة "سنتصل بكم عند حاجة العمل لتعيين وظيفتكم" هى الجملة الأشهر لزحلقة من يتلطعون على أبواب الشركات يطلبون عملاً،لكن صديقي هذه المرة ضحك ضحكة مدوية أغاظتني جداً وقال لي " لقد فعلنا ما علينا ورضينا ضميرنا وخلاص" فقلت له وأنا امسك برقبته أريد أن أخنقه " لكن أنا ضميري مش مرتاح يا معفن إلا لما أخد الخمسة جنيه بتاعتي من رقبتك.دي تأكلني أسبوع حرام عليك.
هذا الموقف الذي قصصته عليكم لا يمكن أن أنساه بسبب خسارتي المادية التي دبسني فيها صديقي وعلى الرغم من تلك التغريمة الباهظة التي تكلفتها إلا أنها كانت سبباً في توطيد صداقتنا أنا وصديقي للأبد لأنه في ثاني يوم وفي نفس الموعد جائني اتصال من سكرتير المدير المسئول وطلب مني أن أحضر أنا وصديقي أوراق تعيننا لأن المدير أمس حين رآنا وكان مسرعاً كان يهم للحاق بمجلس تنفيذي تم من خلاله اعتماد بعض الوظائف للتعيين وكان من بينها وظيفتنا ورشحنا على الفور وخلال 16 يوماً من هذه المحادثة التليفونية كنت أنا وصديقي معينين بسبب كذبة اخترعها وهو يهرش في فروة رأسه أنقذتنا من الشارع ورمت بنا داخل وظيفة محترمة نفتح منها بيوتنا لليوم ولأول مرة في حياتي صداقتي معه ألاحظ أن الهرش في فروة الرأس يجبر الخواطر ويعين أصحاب البطالة ويفتح بيوتاً كادت تغلق.
في النهاية شكراً لصديقي على افتكاسته الكاذبة وأدعو الله أن يكتبها كذبة بيضاء لنا فقد كانت نياتنا خيراً وإن لم يستجب فالوزر كله سأتبرء منه وسأدبسه في رقبة صديقي كما دبسني في الروقة أم خمسة التي مازل يؤلمني فراقها لليوم.

وفقي فكري

الأربعاء، 14 ديسمبر 2016

أنا وسائق التاكسي

هل وجدت نفسك في لحظة مواجهاً نفسك بحقيقة قاسية وهى أنك لابد وأن تستقل تاكسي مرغوماً مكبلاً بهموم "كم ستدفع للسائق في أخر التوصيلة" بعد أن فاتك أتوبيس العمل وغادر مثل الصاروخ غير عابئ من بداخله بمأساتك؟!!
نعم تلك هى الحقيقة المرة وحتماً ستتقبلها شئت أم أبيت أو كن "رامبو" وامتنع عن الذهاب للعمل وتحمل تبعات ذلك.
وقفت على جانب الطريق مستتراً من سقيع صباح الشتاء بكوفيه صوف بنية اللون ألفها حول رقبتي ويداي داخل الجاكت الجلد أتصيد تاكسي "على أد حاله" أتوسم في صاحبة الرأفة وعدم المبالغة في تقدير الأجرة متشفعاً بحالة التاكسي المتهالكة،ما أن قيمت الوضع ووجدته قادماً من بعيد وزئير موتوره ينحر في الأسفلت حتى أخرجت يدي اليمنى على مضض وأشرت له راجياً الوقوف فوقف بسهولة ويسر،اندفعت داخله وأنا أسلم على السائق بجملة تقليدية باهتة دون أن أنظر له وأقول له العنوان بشكل نمطي،وما أن استقر جسدي على الكرسي الجلد حتى غمرني بماس كهربي عارض من شدة برودته،غير أن رجولتي لم تسمح لي أن أظهر ذلك الألم للرجل الذي يجلس خلف مقود القيادة،ثم نظرت له فإذا بي أجد شيخاً عجوزاً لكنه غير بشوش بالمره،فقلت حسناً لاريب فطالما كانت السيارة قديمة متهالكة والرجل شيخ كبير إذاً التوصيلة مباركة إن شاء الله وسندفع ما قل،وكفى المتعاملين شر الفصال والخناق.
انطلق التاكسي وكل جزء منه يشخشخ ويأن وكأنه يلعن اليوم الذي ركبته فيه،ولو أن أحداً طلب مني أن أقيم عمر هذا التاكسي لأعطيته مثل عمر السائق مرتين أو أكثر.
بمجرد أن انعطفنا للمين في شارع طويل فارغ من المارة والسيارات،انطلق لسان العجوز يتمتم،قلت لا بأس ربما يتلو أذكار الصباح فتركته يهمس احتراماً لخشوعه وهذا يسعدني فكل شئ يخدمني ويصب في هدفي الأعظم وهو دفع أجرة قليلة مقابل التوصيلة الإضطرارية لسيارة متهاكلة وشيخ عجوز واضف إلى ذلك رجل تقي وورع،فما أسهلها من توصيلة مريحة ققلب.
انتظرت حتى فرغ من تسابيحه ثم قلت له موحيا له بأني ملتزم مثله "بارك الله فيك يا اسطى..يومك جميل إن شاء الله" فنظر لي نظرة ثاقبة ثم انتظر لجزء من الثانية وقال في جمود لا يعبر عن جملته "نهارك ابيض يابني" اعتدلت ونظرت للطريق وقبل أن أصل لخط الأفق من بعيد حتى باغتني بسؤال فتح باب الحديث بيننا:
-         انت رايح الشغل؟
-         ايوه يا حاج
-         شغال فين؟
-         شغال في شركة كذا
-         بتحب شغلك؟
في هذا السؤال الأخير شعرت أني أمام مطب صناعي ليس على الأسفلت بل مطب كوره السائق بين يديه وألقاه في وجهي فجأه فجاوبته متحفزاً
-         طبعاً بحبه..أهي شغلانه بناكل منها عيش وخلاص يا حاج
-         تبقى مش بتحب شغلك..شاطر
تعجبت من كلمة "شاطر" التي شبكها في ذيل جلمته الأخيرة وشعرت بالغيظ منها فقررت أن أقلب فوقه الترابيزة وأحصره في نفس السؤال:
-         وانت يا حاج بتحب شغلانتك
-         لأ
هى فقط كلمة "لأ" ونظر للطريق وصمت،كسرني هذا العجوز برخامته وتمنيت لو انتهى المشوار ونزلت حالاً من جواره فقد علمت الآن لماذا كان جلد كرسيه بارد مثل سقيع القطب الشمالي.
ساد الصمت قليلاً بيننا وكانت كلمة "لأ" وتجاهله لي ناظراً للطريق خير دليل أنه لايريد أن أمارس حذلقتي وأباغته بكلمة "لماذا لا تحبه يا حاج" ليرد علي ويقول نفس ردي "أهي شغلانه بناكل منها عيش وخلاص يابني" فتتساوى كفتينا ويهدأ غل قلبي لكنه لم ولن يفعل هذا الرجل الخبيث الداهية.
اقتربنا من دخول الشارع الواقع به مقر عملي لكن الطريق مزدحم ويبدو أن الوصول سيستغرق أكثر مما ينبغي،فبدأت أتوتر وأصابعي تعلن عن ذلك التوتر بالضرب في انتظام على حافة شباك الباب الذي بجواري من فوق فتحة الزجاج،ليس لأني أخشى التأخر عن موعد العمل بل لأني أجد الجلسة مع هذا الرجل في تلك السيارة التي أشعر أن صوت موتورها يلعني في كل لحظة مثل جلوسي كمتهم أمام أبيه ويخشى عقابه ويالها من أزمة حقيقة،صرت بين رغبتين؛إحداهما النزول والهروب من أمام وجه هذا السائق والخلاص بجلدي كما يقولون والأخر هو الصبر حتى أصل لباب العمل والجميع يراني أنزل متباهياً من تاكسي قلما يجود به الزمان على موظف مثلي،فماذا أختار؟
هل أختار الطمأنينة والإستقرار النفسي أم تغلبني أطماعي وأتحمل من أجل الإستمتاع "بالفشخرة" الممتعة؟!!
أخيراً قررت النزول متنازلاً عن طموحاتي بعد أن رجح كفتة الخيار الأول احتمالية دفع مبلغ أقل على سبيل أني لم أصل للموضع الذي حددته في بداية الركوب.
أخيراً رأيت قدماي تلمس الأسفلت وأنحنى وأطلب منه تحديد الأجرة في لحظة فارقة بعدها ساد فيها الصمت مني منتظراً وأنطلق لسانه يقول "اللي تدفعه يابني".
شعرت بالطبية الملفوفة بحنية لا نهائية من جملة السائق،فلو كانت خرجت من سائق تاكسي شاب بسيارة جديدة فالتأكيد كل التأكيد أن ذلك مقدمة للـ"التدبيسة الكبرى"،لكنها خرجت من رجل عجوز وقور ذو سيارة متهالكة فبالتأكيد يقولها عن صدق ورضا.
أدخلت يدي في جيبي بهدوء وأخرجت خمسه جنيهات ومددت يدي بها للرجل وابتسامة الإمتنان تملأ وجهي،فسمعت بشكل مفاجئ كزلزال،صوت خشن يخرج من حنجرته أشبه بصوت من يشخر أثناء نومه فصعقت حين تأكدت أنه يقصد بها الإعتراض على الخمسة جنيه بأسلوب تعبيري مصري خالص وأتبعها بكلمة "أيه ده يا اخويا"
قلت له "خمسه جنيه ياحاج" فرد مسرعاً "الخمسه جنيه دي تلفها وتحطها في ؟؟؟ وعلى فكرة أنا مش حاج أنا مسيحي وبشتغل يوم الأحد شماس في الكنيسة وادفع بقى 20 جنيه بدل ما اسبلك الدين واخلي يومك طين فوق دماغ اللي خلفوك".
كل ما أتذكره بعد هذا السيل من الشتائم أني دفعت ولكن لا أعلم بالتحديد كم دفعت فقد أخذ الذهول عقلي وهممت اسابق خطواتي مبتعداً عن التاكسي وأنا اتسائل:
"مسيحي؟!!! أمال أيه الأذكار اللي كان قاعد يسبح بيها دي؟..وأنا اللي قاعد اقوله طول الطريق يا حاج يا حاج وهو في الأخر طلع شماس في كنيسة".
دخلت المبنى الذي أعمل فيه ولم ألاحظ أني لم أوقع بالحضور من شدة الإندهاش،حيث كانت الصدمة عارمة وفاقت كل الحدود،ولكم أن تتصوروا أني دفعت لهذا الموتور العاصي ثمن باهظ على سبه لي طوال الطريق بالإضافة أني رأيت وجهاً أخر لعواجيز لم يربيهم أهلهم ولم يربهم الزمن وجاءوا ليربونا ويخيفونا رغم عنفواننا وهرمهم إلا أن جمله المنسقة المتتابعة والواثقة وتعبيره الصوتي الصريح جعلوني أهتز وادفع بلا نقاش.
من يومها قررت قراراً نهائياً أنني في المرة القادمة حين يفوتني أتوبيس العمل لن أذهب للعمل مهما كانت العواقب وسأعود إلى فراشي لأحلم بأحلام وردية تعوضني خيراً عن هذا الكابوس الذي كاد أن يجعلني أغرق مرتبتي بالتبول اللإرادي،واشتري كرامتي التي بعثرت هذا الصباح الشوي العاصف.

وفقي فكري